1/06/2024

الفتاة الناعمة: أسلوب الحياة الجديد المحبب لإناث الجيل المعاصر


شهدت حقبة الستينيات المودز والروكرز. ثم تلتها السبعينيات حيث ظهر الديسكو وما عُرِفَ بقوة الزهرة، بينما الثمانينيات كان نصيبها حالة من الرومانسية العارمة. وبالاتجاه قدماً لحاضرنا، فإن عوالم فريدة من الثقافات الفرعية قد أحاطت بِنا من كل جانب. وإذا كنت من مُريدوا التيك توك، فمن المُرجّح أنّك قد صادفت العديد منها بتصفحك المسائي.

 

فالوتيرة السريعة التي تُحرّك منصات التواصل الاجتماعي، ساهمت بتيسير وصول هذه الثقافات لعدد هائل من المتصفحين وحصد قدر مُذهل من التفاعل والإعجاب. الأمر الذي قاد خطوط الموضة والأزياء للاندماج بالثقافة، الهوية ونمط الحياة. فطريقة اللباس والمظهر العام لم يعودا يُعبِّرا عن  الموضة الدارجة أو الذوق الخاص بنا كأشخاص وحسب، وإنّما أصبحت أيضاً انعكاس لنمط الحياة الذي ننتهجه.

 

 وبالأعوام الأخيرة، كان من الصعب تفويت صيحة ”الفتاة الناعمة“ التي ذاع صيتها على التيك توك، والتي تعتمد حسب موقع The Trend Spotter, على ألوان الباستيل، نقشات الفراشات المرفرفة والسحب الرقيقة الدافئة، والتي تمتثل حسب موقع The List للبساطة الأنثوية.

 

إلّا أن مبدأ ”الفتاة الناعمة“ هو أعمق من حصره بنعومة ألوانه ورقة اكسسواراته. فهو جزء من منهاج ”الحياة الناعمة“ الذي قد نبع من مجتمع المؤثرين النيجيريين قبل أن يشد رحاله للوعي الغربي عبر منصات التواصل الاجتماعي. ففي الوقت الذي تجابه به نيجيريا أزمات التكاليف المعيشية، أتى مفهوم الحياة الناعمة ليحيد عن المرادفات البراقة للمادية والمرتبطة عادةً بمظاهر الترف والثراء المتمثلة بقضاء ليال بفنادق فاخرة و منتجعات باهظة التكاليف. وخلافاً لذلك، هو يدعونا لارتداء ملابسنا الأكثر راحة، وضبط حياتنا اليومية بالإيقاع الأكثر ملائمة لنا، ويكون التحدي أن نطبق ونستمرعلى ذلك فعلياً.

 

ومن الملاحَظ أن موجة ”الفتاة الناعمة“ قد تطورت سريعاً إلى نطاق أوسع مع ظهورها جنباً إلى جنب مع موجتي ”الحياة الناعمة“ و”فتاة الصيف الناعمة“ إضافةً إلى موجة ”الفتاة الداكنة الناعمة“، والتي من غير المدهش أن هذه الأخيرة تحديداً قد حققت صدى بين صاحبات البشرة الداكنة بعمق. حيث اعتبرها البعض أنها ردة فعل عنيفة ضد الفكرة السائدة، بالثقافة الإفريقية، عن شخصية الفتيات الداكنات، والمتمركزة حول سمات الحِدّة والزعامة. الأمر الذي لم يكن موضع ترحيب من قِبَل الإناث هناك ومثَّلَ عبىء عليهن، إن كان بالعمل، بالعلاقات، أوبجوانب حياتهن المختلفة بوجه العموم. ليأتي مبدأ الحياة الناعمة فيُشَرّع  للجنس الناعم إنفاق طاقاتهن على أنفسهن بدل من إهدارها كلية بالعمل ومتطلبات الحياة الأخرى.

 

ونحن بصفتنا نساء داكنات قلّما أُتيحت لنا الفرصة لتخيُّل حياتنا وفقاً لشروطنا الملائمة لنا. ورغم ذلك، فقد ظهر أكثر من ٤٠٠ مليون ڤيديو على التيك توك مؤيد لنمط الحياة الناعمة ومنادٍ لأفكار داعمة تتمثّل بنصائح للعيش البطيء وتبنِّ عقلية استحقاق الراحة. وبذلك، فإن تلك المساحة البعيدة المتمثلة بالإنترنت توفر لنا المجال لتحقيق ذلك. حيث أن رؤيتنا هي العيش بحياة متمهلة، هادفة ومثمرة وهذا بالضبط ما تحققه الحياة الناعمة لنا.

 

وفي الوقت الذي يعتبر فيه الكثير أن الحياة الناعمة تعني التخلّي عن المسؤوليات المالية في سبيل العيش حياة رغدة، فيجدر بي أن أوضح أن الحياة الناعمة أعمق من اعتبارها مجرّد أسلوب حياة جمالي. فهي تحمل بطياتها معاني الاستكشاف والإبداع، حيث أنّها تمنحني الفرصة لخلق توازن بين الحياة والعمل، الثقة لرسم الحدود التي تناسبني ومواجهة التوتر الذي قد أواجهه جرّاء هذا، التفكُّر بما قد تم فرضه علي وبات من المسلمّات، اختيار نظام الحياة الأنسب لي ولتطوري. وهذا يشتمل على السباحة، جولات الأقدام، الكتابة وسط الطبيعة، وهي كلّها نشاطات أستطيع التحكُّم بها دون أن تُكَلّفني فلس واحد. وبتفكّري عن المرّات التي أتحنا بها لأنفسنا كإناث بالتساؤل عن احتياجاتنا الحقيقية وعمّا يُنعشنا دون الحاجة للاعتماد على آخرين، أجد أن الحياة الناعمة متجذرة  بما نرغبه من معاني العناية بالذات والتي بها نخوض تجربة تمكين المرأة الحقيقي. 

 

ولطالما دافعت النسويات الداكنات اللاتي اهتممن بموضوع حُب الذات عن مصطلحات مثل ”الراحة الراديكالية“ و“العناية بالذات الراديكالية“. فالكاتبة بيل هوك مثلاً بكتابها ”كُل شيء عن الحب: رؤى جديدة“ الذي أُصدر عام ١٩٩٩، أوضحت كيف أن منح الحب، العاطفة والقبول للذات هو من ممارسات النعومة. وكتبت: ”إنّه من السُخف لأن أحلم بشخص آخرلأن يُقَدِّم لي القبول الذي كنت أحجبه عن نفسي“. 

 

ويُمكن إيجاد فلسفة الحياة الناعمة كذلك بأعمال الشاعرة والكاتبة أودري لورد التي سردت بكتابها الذي أُصدر عام ١٩٨٨ ”حفنة من الضوء“ رحلتها مع الراحة والنعومة موازاة مع اهتمامها بصحتها الجسدية، وعبرت به عن إيمانها بفكرة أن الراحة هي ممارسة شخصية وسياسية. وتقول: ”استعنت بتدوين أحلامي وكذلك بالخضوع لاختبارات مناعية لكشف التأثير المُدَمّر للإفراط. وقد كانت تجربة مُرهقة، ومنها أيقنت أن ضرورة التقليل من الإفراط تعادل ضرورة التقليل مما نتناوله من سُكّر. فاهتمامي بذاتي لا يجدر أن يندرج تحت بند الانغماس بالملذات وإنما هو أحد أنماط المحافظة على الذات وبالتالي هو أحد أنماط الحروب السياسية“.

 

وبالمثل، تستمر الناشطة آنجيلا ديڤيز بتذكير أجيال المستقبل أن النعومة هي حجر الأساس للمجتمع، والقاعدة لحركات العدالة العرقية. فتقول بإحدى مقابلاتها مع Afropunk: ”على أي شخص يعني له إحداث تغيير بالعالم أن يهتم بذاته. فلزمن طويل لم يضع النشطاء اعتبارهم لأهمية العناية بالذات من حيث الغذاء، سلامة العقل والروح“ وتضيف: ”أعتقد أن نشاطات حركتنا كانت لِتُحدِث فعالية أقوى إن كنّا قد أدركنا باكراً أهمية هذا النوع من العناية الذاتية. وشخصياً، بدأت مؤخراً، وتحديداً حين كُنت بالسجن، بممارسة اليوغا والتأمّل، وكانت تجربة فردية عالية المستوى. ولاحقاً، أدركت وقع هذه المماراسات على النفس“.

 

كذلك، تقول تريشا هيرسي من وزارة القيلولة: ”امتناعك عن الراحة يعد أحد أشكال العنف ضد جسدك. حيثُ أن توائمك مع نظام ينفي ملكيتك لجسدك ويدعوك للاستمرار بالعمل واعتبارك مجرّد أداة من أدواة الإنتاج هو موت روحي بطيء. وبذلك، تُعَد الراحة أحد أنماط المقاومة حيث أنّها تُعطِّل نظام الرأس مالية وتقاومه“.

 

إن العودة للهواء الطلق يخلق فُرَص لمجتمعاتنا بالتشافي من الصدمات العنصرية والجندرية. وبذلك فإن خلق وقت لتقضيته بالطبيعة والثقة للقيام بذلك لهو بعينه ممارسة حياة النعومة. وقد تم إنشاء منظمات ك Peaks of Colourالتي نظمتها إلى جانب All the Elements و Black2Nature لمساندة فكرة الاستمتاع بالطبيعة والهواء الطلق بصحبة مجموعات متنوعة من حيث الهويات والأعراق.

 

لكن الحقيقة رُغم ذلك هي أن تبنّي نهج الحياة الناعمة ليس بالأمر الهيّن، فهي رحلة إعادة بناء تتطلّب صبر واهتمام. ومن هُنا بدأت كايا نوڤا مؤسسة Grown Mag بتوثيق رحلتها مع مبدأ الفتاة الناعمة عبر التيك توك. حيث توجه عبر حسابها رسالة لأولئك المستصعبين الأمر وتعرض حقيقة غالباً ما يتم استبعادها من الخطاب الشعبي وهي ”المشقة في البحث عن الراحة والآلام التي ينطوي عليها الأمر“. 

 

وتقول: ”اختيار النعومة يعني الترحيب بالضعف، وعندما تكون أكثر ضعفاً فإن الأشياء التى تؤلمك تُصبِح أشد إيلاماً. وأنا ببداية رحلتي مع النعومة، امتلكني شعور يتمثّل بأن العالم قد أصبح أشد قسوة، ولكن حقيقة الأمر هي أنّني أعطيت ذاتي المساحة والوقت لاستشعار عواطفي بدلاً من القفز مباشرةً لمرحلة وضع الحل. وبذلك، فإن تجربتي الأولى مع الفتاة الناعمة لم تكُن سهلة على الإطلاق، ولم تبدُ الأمور ناعمة من الناحية الجمالية. بل بدت قاسية، وكُل يوم يُمثِّل تحدٍّ للبقاء بالمساحة الناعمة المرتبطة بطلبي للمُساعدة، الجهر بعدم قدرتي القيام بأمر ما، التخفيف عن نفسي بدل من أخذ كافة الأمور برمّتها على عاتقي، والمحافظة على البقاء بهذه المساحة وبما تحملها من مشاعر“.

 

والنعومة كعملية مقاومة تعزز أعمال نادين آيچوير، المولودة بجنوب شرق لندن والحائزة على جوائز عدة. فهي أوّل امرأة ملوّنة على الإطلاق تصوّر غلاف لمجلة ڤوغ، ومن خلال هويتها النيجيرية الچامايكية، تستعرض معايير جديدة للجمال بإضفائها الحياة للثقافات المتنوعة وإبراز فرادتها. والآن، تُعرَض أعمال   آيچوير بمعرض ساتشي كجزء من معرض The New Black Vanguard. وفيه نجد عمل “البهجة كوسيلة مقاومة“ والذي يتمثّل بابتسامة مبهجة وسط هيمنة تول برتقالي اللون. إضافةً إلى صور من حملتها الأخيرة لنينا ريتشي والتي إحداها صورة لأربع نساء داكنات، يرتدين الباستيل ويرتكزن على قوة بعضهن البعض كتجسيد فعلي للنعومة.

 

 

 

تقول  آيچوير ل BBC الثقافية: ”بالماضي ولازلنا لليوم نعرض العديد من المشاهد لبشر سود وهم يعانون، يسجنون أو يهانون، وبمرور الوقت، خلقت هذه الصور صورة نمطية عن ذوي البشرة الداكنة. ولطالما تسائلت، لماذا مشاركة بهجة ذوي البشرة الداكنة لا تُعادِل مشاركة صدماتهم؟ ولهذا السبب، وكوني مصورة فوتوغرافية، آثرت التقاط ما يبرز الجمال، السعادة، المشاركة، إضافةً إلى إبراز الجانب الناعم الموجود بكل فرد منّا والذي غالباً ما يكون مستتراً. وبفضل عملي مع مرور الوقت، تعلّمت أن أعطي ذاتي الحب والاهتمام الذي أحتاجه، رغم أن ذلك ليس بالأمر الهيّن خاصةً كوني امرأة داكنة، إلّا أن هذا بحد ذاته عزز من أهمية اطمئناني على نفسي من حين لآخر، وأؤمن أن على كل فرد القيام بذلك أيضاً.

 

إن النساء صاحبات البشرة الداكنة الرائدات بإعلاء شأن الملذات البسيطة الجريئة، والمُندَرجة الآن تحت بند الحياة الناعمة، يمكن اعتبارهن من الطليعة. تقول آيچوير: ”جميعنا نعرف قوة الصور، فقد شكلّت حياة من سبقونا وستشكّل حياة من سيأتوا بعدنا. وعليه، فنحن نخلق مرجع لوجود أكثر نعومة، فمراجع الحياة الخشنة ستظل موجودة للأبد، لكنّها بحقيقة الأمر ليست الخيار الأوحد“.

 

وفيما يتعلّق باتجاه وسائل التواصل الاجتماعي ودعمها لحركة النساء الداكنات، الرائدات بقيادة إعادة تعريف القوة بجعلها مرتكزة على النعومة، والمطالبة بحياة يملؤها البهجة والتشافي مما عانينه، فهذا يُعَد أحد أشكال الثورة الهادئة. وعليه، فالتقومي بارتداء ملابسك الأكثر راحة، ولا تترددي باصطحاب نفسك لنزهة على الأقدام، أو الاستلقاء أمام النار وهيئى نفسك للسماح باستشعار الضعف. كوني دوماً رقيقة مع ذاتك وأنتِ تجابهين حواراتك الداخلية التي تتطلّب إعادتها مراراً. والأهم، إعشقي ذاتك واستشعري التحرر حيث تجاهل الأنماط والعادات والقيود، وانغمسي بطاقات إبداعك وإمكانياتك التى لا حصر لها، والمنبثقة من نغمات حياتك الناعمة.



المقال أعلاه ترجمته كَريمان حامد، وهو مأخوذ من مقال نشره موقع البي بي سي الثقافي
 للكاتبة إيڤي موير، بتاريخ ٥ ديسمبر ٢٠٢٢، تحت عنوان






  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق