5/19/2023

كُرّاس غير مشروع | قوة كامنة بمُذَكِّرات سرية

لا شك أنّه ستتملكك نشوى غير مشروعة إن اطّلعت على مذكرات أحد ما وإن كانت من وحي خيال كاتبها. لكن لا يعني ذلك أن جميعها سيُغدِق عليك بقوة مشاعرية تأسرك كتلك التي خطتها آلبا دي سيسبيديس عام ١٩٥٢، بروايتها ”كرّاس غير مشروع“. 

 

فبالاطلاع على السطر الاستهلالي للرواية: ”كنت مخطئة بشرائي هذا الكُرّاس، جداً مخطئة“، تُدرك كقاريء أن بطلة الرواية تسطر اعترافات بها شيء من الخطورة من منظورها.

 

 وبالحديث عن البطلة، فأنتَ تُقابل سيدة بعمر الثالثة والأربعون، بزمن ما بعد الحرب الإيطالية، متزوجة وأم لطفلين، تمتلكها الجرأة للمرة الأولى، لأن تعبّر بصدق لنفسها عن أفكارها، مشاعرها ورغباتها، بصفحات كرّاسها. وما يعزز من الفضول نحو تلك الرواية هو معرفة أنها قد مُنعت طباعتها لعقود، ولم يتم إعادة نشرها سوى حديثاً. بدايةً باللغة الإيطالية، ومن ثَمَّ باللغة الإنجليزية  على يد المترجمة آن جولدستين، التي تُعرَف بترجماتها لأعمال الينا فيرانتيس، حيثُ أنّ الأخيرة هي من لفتت انتباهها ل آلبا دي سيسبيديس، حين أشارت إليها مرّتين بكتابها الذي أُصدرَ عام ٢٠٠٣ ”فرانتوماغليا - رحلة كاتب“. تقول جولدستين: ”إن إلينا لديها قائمة من الكتّاب الملهمين و دي سيسبيدس واحدة منهم“. ثم تقول: ”لقد حاولت على إثر ذلك تتبع أعمالها إلّا أنني لم أجد أي منها، كدتُّ أُجَن“. 

 

كانت آلبا دي سيسبيديس بزمانها، واحدة من أشهر الكتّاب بإيطاليا وغيرها من البلدان. تقول جولدستين: ”كانت الكاتبة الإيطالية معروفة جداً بأيامها، ثمّ بدأ سيطها يتلاشى تدريجياً بشكل غامض هي وغيرها من الكاتبات وقتذاك“. وحين حصلت جولدستين على النسخة الإيطالية من ”كُرّاس غير مشروع“ عبّرت عن ذهولها قائلةً: ”لكم هي مبهرة الحداثة في وقائع المذكرات، فالأمور التي تراها وتكشفها البطلة هي ذاتها ما نعاني منه الآن، وهذا بحد ذاته يدفعك تلقائياً للانجذاب والاندماج مع وقائع الأحداث، وعليه، أرى أن على الجميع قراءة الكتاب“. 

 

آن جولدستين، ليست وحدها من اهتمت بكتابات سيسبيديس، فالحاصلة على جائزة نوبل للآداب بالعام الماضي، آني إرنو، أشادت: ”كانت تجربة القراءة لسيسبيديس معي أشبه باقتحام عالم جديد غامض“. كذلك الكاتبة چومبا لاهاري، والتي ساهمت بالمقدمة الاستهلالية لطبعة ”كرّاس غير مشروع“ الحديثة، عبّرت عن رأيها قائلةً: ”كتابات سيسبيديس ذات أهمية كبيرة، فلازالت تعاني المرأة من السخرية من آرائها، التي يتم التعتيم عليها، بل ووصمها أحياناً بالخطورة. وسيسبيديس عبّرت بحرفية عالية عن حق المرأة بالكتابة، وهو حق لا ينبغي أن يُسلَب بأي شكل من الأشكال“.

 

ما بين سطور الكتاب

 

الكتاب عبارة عن مذكرات تسطرها ڤاليريا كوساتي ذات الثلاث وأربعون عاماً بعام ال ١٩٥٠. هي زوجة لميشيل وأم لشابين يافعين، ميريلا وريكاردو. كما أنها وعلى غير المألوف لسيدات ذلك الوقت، تعمل بوظيفة مكتبية.

 

ذات يوم، بأحد صباحات يوم الأحد، تذهب ڤاليريا للمُتجر لشراء سجائر لزوجها وتُلاحظ كومة من الدفاتر بجوار النافذة، سوداء، لامعة وسميكة كتلك التي يستخدمها عادةً طلاب المدارس. لتجد نفسها تطلب من البائع شراء دفتر منهم، ليجيبها على الفور بأنه ووفقاً للقانون، غير مصرح له  بأيام الأحد بيع أي شيء عدى السجائر. لم يكن منها سوى أن ترجو وتُصِر على مطلبها، ليرضخ  البائع بنهاية الأمر طالباً منها تخبئته بمعطفها خشية أن يكشفها الحارس.

 

تعود للمنزل ولا يؤثر ذلك على سرية الكُرّاس، حيث أبقته مخبأ بعيد عن أسرتها بعد أن كتبت اسمها عليه. ذلك الاسم الذي كادت أن تنساه في ظل مناداة زوجها لها ب ”ماما“ تماماً كالأبناء، ومناداة والديها لها ب ”بيبي“.

 

ويحدث أن خطر ببالها بأحد الأيام عشاءً أن تسأل أفراد أسرتها عن فكرة تدوين مذكراتها، فما كان الرد سوى مزيج من السخرية والاستنكار من أن يكون لديها ما يستحق التدوين من الأساس. ”ماذا ستكتبين يا ماما؟“ يقول زوجها.  

 

بالبداية، قاست ڤاليريا مشاعر اعتقاد أنّها بالفعل لا تملك ما تكتب عنه، إلى جانب معاناة تخبئة الكُرّاس، فتارةً تضعه بسلّة الخياطة، وتارةً بخزانة الملابس ثم تنقله لحقيبة السفر. فهي لم تكن 

تملك حتى درجاً يخصها، وبذلك، أصبحت مذكراتها هي مساحتها الخاصة الوحيدة. وعليه، سرعان ما تطورت علاقتها بها وأصبحت تدوّن مشاعرها بمزيد من التفاصيل - كتعبيرها مثلاً عن عدم قدرتها على التواصل مع ابنتها، وخيبة أملها من خيارات ابنها، فضلاً عن استيائها من حياتها الزوجية الباهتة. فباتت تستيقظ لساعات متأخرة من الليل مدعيةً الأرق حتى يتسنّى لها الوقت والخصوصية للتدوين.

 

وبتدوينها لأفكارها ومشاعرها، بدأت تعيد اكتشافها لذاتها، احتياجاتها ورغباتها الضائعة وسط واجباتها المنزلية اليومية، فتكتب: ”لطالما اعتقدت أنّني شخص شفاف وبسيط وجعبتي لا تحوي مفاجآت لي أو لغيري“.

 

ومن هُنا، يتكشّف أن هنالك فجوة متنامية بين ما تُظهره البطلة لعائلتها وأصدقائها، وبين ما تكشفه على صفحات مذكراتها. فتقول: ”إنّني أبحث عن الوقت الذي ألتقِ به ذاتي الحقيقية، عبر سطور مذكراتي“. 

 

لكن، ما يحدث بمرور الوقت ومع تطور انغماسها بتحليل تفاصيل حياتها، تُصبِح البطلة أكثر أرقاً، فتقول: ”كلّما ازداد تعرُّفي على ذاتي، كُلّما ازداد شعوري بالضياع“. وبنهاية الكتاب، تتحوّل الحُريّة التي جلبتها لها الكتابة إلى خوف. فتقول: ”مواجهة صفحاتي تملؤني بالخوف، فكل مشاعري التي أُشرِّحها مُعرّضة للتعفُّن، وبالتالي قد تتحوّل إلى سُم قاتل، وأنا واعية تماماً بأنّني أصيرُ مجرماً كلّما حاولت أن أكون القاضي“.

 

تم نشر الرواية بدايةً على شكل حلقات متسلسلة وعلى مدار ستة أشهر بمجلة La Settimana Incom Illustrata. وعلى غرار بطلة قصتها، احتفظت دي سيسبيديس بمذكرات تخصها، على الرغم من الاختلاف البعيد بين حياتي السيدتين.

 

وُلدت دي سيسبيديس بروما عام ١٩١١ لأب كوبي وأم إيطالية. جدها هو كارلوس مانويل دي سيسبيديس الذي قاد معركة كوبا من أجل الاستقلال عن إسبانيا وتقلّد منصب أوّل رئيس للبلاد. كما شغل والدها ذات المنصب لفترة وجيزة.

 

تزوجت آلبا بعمر ال١٥ وأنجبت طفلها الأول بعمر ال١٦، ثم تطلقت من زوجها بعمر ال٢٠. امتهنت الكتابة بعد ذلك، حيث عملت بداية كصحفية ثم لاحقاً كروائية وكاتبة سيناريو. إلّا أنّها سُجِنَت مرتين، الأولى عام ١٩٣٥ والثانية عام ١٩٤٣ لنشاطاتها المناهضة للفاشية.

 

قامت بتأسيس المجلة الأدبية  Mercurio عام ١٩٤٨ حيث نشرت كتابات لإيرنيست همنغواي ومعاصرتها ناتاليا جنزبرج. كما اشتهرت بعامودها الخاص الذي تُسدي به نصائح من منظورها بعام ١٩٥٠. تقول جولدستين: ”القاسم المشترك بين دي سيسبيديس وبطلة روايتها هو الصعاب التي واجهتها والتي منها التوفيق بين متطلبات الزواج ومتطلبات العمل، وما يعنيه أن تكون امرأة وكون ذلك يعيقها عن القيام بأمور معينة، والتساؤلات المتمحورة حول الأسباب التي لا تُمكّنها من القيام بهذه الأمور.

 

تسييس المتطلبات الشخصية


سيسبيديس كانت تكتب بوقت كانت فيه النساء يطالبن بالتغيير في إيطاليا، حيث حصلن على حق التصويت - فقط - بالعام ١٩٤٥. تقول جولدستين: ”كانت تدور روايتها الأولى ”لا رجعة“ حول مجموعة من النساء يصارعن من أجل مستقبل أفضل بعالم يحكمه الرجال والقيود التي فرضوها عليهن“. وتضيف: ”حاول نظام الفاشية منع الرواية من النشر لأنّه يدعو النساء للحياد عن الإطار المحدد لهن، إلّا أنّها نُشِرَت بنهاية المطاف عام ١٩٣٨ وحققت نجاح كبير ومبيعات ساحقة، حيثُ تجاوب معه الناس بالعموم والنساء على وجه الخصوص“. 

 

دي سيسبيديس كانت تعبّر عن النساء اللاتي يعشن حياة يغلب عليها طابع الرتابة واللاتي تفوق معاناتهن معاناتها هي الشخصية. إلّا أن هذا الصدق الراديكالي بمعالجة الحياة الداخلية لهؤلاء النساء قد ألهم كاتبات أخريات ليحذون حذوها بمن في فيهن الكاتبة الينا فيرانتي. 

 

تقول جولدستين المخضرمة بكتابات فيرانتي: ”لقد تبيّنت مدى تشابه فكر الكاتبتين بعد قرائتي الأولى لسيسبيديس. صحيح أن هناك تباين واضح بأسلوبهما حيث أن التركيبات الشخصية لأبطال قصص فيرانتي إلى جانب طبقاتهم الاجتماعية وغيرها من التفاصيل تختلف جل الاختلاف عن تلك الخاصة بسيسبيديس، إلّا أن القاسم المشترك بين أبطال الكاتبتين هو القضايا التي يواجهونها والتي  تتمحور حول إثبات الذات، تحديات المرأة، المجتمع والأسرة“.

 

ورغم ذلك، لم يصل نجاح سيسبيديس لدرجة النجاح الذي حققته فيرانتي التي نجحت ببيع رباعيتها لأكثر من خمسة عشر مليون نسخة - بنابولي فقط -  إلى جانب نشرها بخمس وأربعين لغة مختلفة واحيائها بعمل تلفزيوني أشاد به الجمهور والنقاد. لذلك يأتي هُنا السؤال، إذا كانت سيسبيديس من أشهر الكاتبات الإيطاليات بحقبة الأربعينيات والخمسينيات، فما الذي حصل؟

 

يعتقد آدم فرودينهيم، الناشر والمدير الإداري ل Pushkin Press، الناشرة لأعمال دي سيسبيديس، أن شعبيتها كامرأة بالمؤسسة الأدبية بذلك الوقت لم تكُن لصالحها. فيقول: ”على الأرجح كان هناك نوع من العجرفة حيال الأعمال الناجحة“. ويُضيف: ”كانت كتب دي سيسبيديس تُطبَع وتُنشَر وتُستَقبَل استقبالاً حسناً حينذاك، إلّا أنّها لم تكن موضع تقدير بالمؤسسة التي يرؤسها الرجال الزاعمين أنّها كتابات نسائية موجهة للنساء“.

 

ورُغم تلاشيها عن الأنظار في إيطاليا، كان هناك مكان واحد تألقت شعبية سيسبيديس فيه. فبعد انتخاب محمد خاتمي كرئيس عام ١٩٩٧، كانت إيران تمُر بشكل من أشكال الثورة الأدبية إلى جانب تخفيف الرقابة الحكومية، ممّا ساهم في نشر العديد من الكتب التى كان ممنوع نشرها سابقاً. فهذا الكاتب والمؤرّخ آراش عزيزي الذي كان مراهقاً ببداية الألفينيات يقول: ”إذا ذهبت إلى مقهى في تلك الحقبة بإيران، ستجد الجميع يتحدّث عن الكُتُب. فقد كان الأدب يُنظَر إليه كمصدر قوة بإمكانها تغيير العالم“.

 

أمّا باهمن فارزانيه، المُترجم الإيراني المرموق، الذي ترجم العديد من الكتب الإسبانية والإيطالية، بما في ذلك رواية جابرييل جارسيا ماركيز ”مائة عام من العزلة“، قام بترجمة عدد من أعمال دي سيسبيديس. يقول عزيزي: ”عندما يُتَرجِم شخص كباهمن فارزانيه كتاب، فأنتَ تقتنِ الكتاب من أجل المُتَرجِم، فهو بمثابة وسيط ثقافي“. وعليه، فإن العديد من أعمال دي سيسبيديس تم نشرها بالفارسية. إلّا أنّ رواية ”كُرّاس غير مشروع" كانت الأكثر تميزاً . ويُضيف: ”لقد كان أحَد أكثر الكتب المعروفة بتلك الحقبة، وأصدقائي ممن هم بعمري يذكرون هذا الكتاب“.

 

كما يتذكّر شعبيته وسط النساء، ليس فقط من كُنَّ بعمره، ولكن كذلك من كُنَّ بعمر الثلاثينيات والأربيعينيات. فيقول: ”أتذكر انفعال العديد من معارفي الإناث تجاه زوج بطلة الرواية باعتياده على مناداتها (ماما)، مما كان يُشعرها بالإحباط. فلا يجدر تصنيف النساء تحت بند الأمومة وفقط، حسب تعبيرهن“.

 

نهج المذكرات المخبأة مبني على مساحة تدوين الأفكار التي لا يُسمَح بالإفصاح عنها علناً، ما يُمثّل صدى هؤلاء من يحيون بمجتمعات قمعية. يقول عزيزي: ”شخصياً، أكثر ما فتَنّي بالرواية هي نبرة الاعتراف“. ويُضيف: ”إن فكرة إمكانية الوصول لنوع من التحرر عن طريق الكلمات هي فكرة بغاية القوة لنا كأشخاص نشنا بجمهورية إسلامية قمعية مَنَعَتنا من القيام بالكثير من الأشياء، فعشنا بذلك حياة مزدوجة“.

 

ويُعبّر عزيزي عن ابتهاجه لإتاحة الفرصة للناس باكتشاف هذا الكتاب، فيقول: ”أنا متشوق بمشاركة أصدقائي بالولايات المتحدة وجميع أنحاء العالم شيء كان جزء من نشأتي، فالكتاب يُمثّل شهادة لفترة حيوية من شبابي وكذلك شهادة لقوة الأدب“.

 

إذاً، لماذا يتم إعادة اكتشاف دي سيسبيديس الآن؟ تقول جولدستين: ”أعتقد أن ليفرانتي علاقة كبيرة بهذا الأمر، فشعبيتها دفعت الناس للبحث عن غيرها من الكاتبات الإيطاليات“. أمّا فرودينهيم فيؤكد على أن هُناك طفرة حاصلة بالاهتمام بالقلم النسائي والمرتبط بأواخر الأربعينيات وحتى الستينيات، حيث كانت دي سيسبيديس جزء من هذه الحقبة. وعليه، فإن دار النشر Pushkin تخطط لنشر كتابين آخَرَيْن لدي سيسبيديس خلال العامين القادمين وهما ”جانبها من القصة - ١٩٤٩“ و ”بلا رجعة“.       

 

يقول فرودينهيم: ”إعادة الاكتشافات الأدبية أمر مثير حقاً، رُغم قلة الإقبال عليها من قِبَل الناس لغموضها وصعوبة قراءتها“، ثم يُضيف: ”المثير حقاً بالنسبة لي برواية "كُرّاس غير مشروع“  تحديداً هو سلاسته وقابليته للقراءة بكل ما يحويه من حبكة مؤثرة وأحداث متلاحقة. برأيي أنّه من الكتب التي يصعب تركها، وأعتقد أن كل من قرأه على دراية بهذا الأمر“.



 المقال أعلاه ترجمته كَريمان حامد، وهو مأخوذ من مقال نشره موقع البي بي سي الثقافي للكاتبة كلير ثورب بتاريخ ٨ مارس ٢٠٢٣، تحت عنوان




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق