1/06/2024

الفتاة الناعمة: أسلوب الحياة الجديد المحبب لإناث الجيل المعاصر


شهدت حقبة الستينيات المودز والروكرز. ثم تلتها السبعينيات حيث ظهر الديسكو وما عُرِفَ بقوة الزهرة، بينما الثمانينيات كان نصيبها حالة من الرومانسية العارمة. وبالاتجاه قدماً لحاضرنا، فإن عوالم فريدة من الثقافات الفرعية قد أحاطت بِنا من كل جانب. وإذا كنت من مُريدوا التيك توك، فمن المُرجّح أنّك قد صادفت العديد منها بتصفحك المسائي.

 

فالوتيرة السريعة التي تُحرّك منصات التواصل الاجتماعي، ساهمت بتيسير وصول هذه الثقافات لعدد هائل من المتصفحين وحصد قدر مُذهل من التفاعل والإعجاب. الأمر الذي قاد خطوط الموضة والأزياء للاندماج بالثقافة، الهوية ونمط الحياة. فطريقة اللباس والمظهر العام لم يعودا يُعبِّرا عن  الموضة الدارجة أو الذوق الخاص بنا كأشخاص وحسب، وإنّما أصبحت أيضاً انعكاس لنمط الحياة الذي ننتهجه.

 

 وبالأعوام الأخيرة، كان من الصعب تفويت صيحة ”الفتاة الناعمة“ التي ذاع صيتها على التيك توك، والتي تعتمد حسب موقع The Trend Spotter, على ألوان الباستيل، نقشات الفراشات المرفرفة والسحب الرقيقة الدافئة، والتي تمتثل حسب موقع The List للبساطة الأنثوية.

 

إلّا أن مبدأ ”الفتاة الناعمة“ هو أعمق من حصره بنعومة ألوانه ورقة اكسسواراته. فهو جزء من منهاج ”الحياة الناعمة“ الذي قد نبع من مجتمع المؤثرين النيجيريين قبل أن يشد رحاله للوعي الغربي عبر منصات التواصل الاجتماعي. ففي الوقت الذي تجابه به نيجيريا أزمات التكاليف المعيشية، أتى مفهوم الحياة الناعمة ليحيد عن المرادفات البراقة للمادية والمرتبطة عادةً بمظاهر الترف والثراء المتمثلة بقضاء ليال بفنادق فاخرة و منتجعات باهظة التكاليف. وخلافاً لذلك، هو يدعونا لارتداء ملابسنا الأكثر راحة، وضبط حياتنا اليومية بالإيقاع الأكثر ملائمة لنا، ويكون التحدي أن نطبق ونستمرعلى ذلك فعلياً.

 

ومن الملاحَظ أن موجة ”الفتاة الناعمة“ قد تطورت سريعاً إلى نطاق أوسع مع ظهورها جنباً إلى جنب مع موجتي ”الحياة الناعمة“ و”فتاة الصيف الناعمة“ إضافةً إلى موجة ”الفتاة الداكنة الناعمة“، والتي من غير المدهش أن هذه الأخيرة تحديداً قد حققت صدى بين صاحبات البشرة الداكنة بعمق. حيث اعتبرها البعض أنها ردة فعل عنيفة ضد الفكرة السائدة، بالثقافة الإفريقية، عن شخصية الفتيات الداكنات، والمتمركزة حول سمات الحِدّة والزعامة. الأمر الذي لم يكن موضع ترحيب من قِبَل الإناث هناك ومثَّلَ عبىء عليهن، إن كان بالعمل، بالعلاقات، أوبجوانب حياتهن المختلفة بوجه العموم. ليأتي مبدأ الحياة الناعمة فيُشَرّع  للجنس الناعم إنفاق طاقاتهن على أنفسهن بدل من إهدارها كلية بالعمل ومتطلبات الحياة الأخرى.

 

ونحن بصفتنا نساء داكنات قلّما أُتيحت لنا الفرصة لتخيُّل حياتنا وفقاً لشروطنا الملائمة لنا. ورغم ذلك، فقد ظهر أكثر من ٤٠٠ مليون ڤيديو على التيك توك مؤيد لنمط الحياة الناعمة ومنادٍ لأفكار داعمة تتمثّل بنصائح للعيش البطيء وتبنِّ عقلية استحقاق الراحة. وبذلك، فإن تلك المساحة البعيدة المتمثلة بالإنترنت توفر لنا المجال لتحقيق ذلك. حيث أن رؤيتنا هي العيش بحياة متمهلة، هادفة ومثمرة وهذا بالضبط ما تحققه الحياة الناعمة لنا.

 

وفي الوقت الذي يعتبر فيه الكثير أن الحياة الناعمة تعني التخلّي عن المسؤوليات المالية في سبيل العيش حياة رغدة، فيجدر بي أن أوضح أن الحياة الناعمة أعمق من اعتبارها مجرّد أسلوب حياة جمالي. فهي تحمل بطياتها معاني الاستكشاف والإبداع، حيث أنّها تمنحني الفرصة لخلق توازن بين الحياة والعمل، الثقة لرسم الحدود التي تناسبني ومواجهة التوتر الذي قد أواجهه جرّاء هذا، التفكُّر بما قد تم فرضه علي وبات من المسلمّات، اختيار نظام الحياة الأنسب لي ولتطوري. وهذا يشتمل على السباحة، جولات الأقدام، الكتابة وسط الطبيعة، وهي كلّها نشاطات أستطيع التحكُّم بها دون أن تُكَلّفني فلس واحد. وبتفكّري عن المرّات التي أتحنا بها لأنفسنا كإناث بالتساؤل عن احتياجاتنا الحقيقية وعمّا يُنعشنا دون الحاجة للاعتماد على آخرين، أجد أن الحياة الناعمة متجذرة  بما نرغبه من معاني العناية بالذات والتي بها نخوض تجربة تمكين المرأة الحقيقي. 

 

ولطالما دافعت النسويات الداكنات اللاتي اهتممن بموضوع حُب الذات عن مصطلحات مثل ”الراحة الراديكالية“ و“العناية بالذات الراديكالية“. فالكاتبة بيل هوك مثلاً بكتابها ”كُل شيء عن الحب: رؤى جديدة“ الذي أُصدر عام ١٩٩٩، أوضحت كيف أن منح الحب، العاطفة والقبول للذات هو من ممارسات النعومة. وكتبت: ”إنّه من السُخف لأن أحلم بشخص آخرلأن يُقَدِّم لي القبول الذي كنت أحجبه عن نفسي“. 

 

ويُمكن إيجاد فلسفة الحياة الناعمة كذلك بأعمال الشاعرة والكاتبة أودري لورد التي سردت بكتابها الذي أُصدر عام ١٩٨٨ ”حفنة من الضوء“ رحلتها مع الراحة والنعومة موازاة مع اهتمامها بصحتها الجسدية، وعبرت به عن إيمانها بفكرة أن الراحة هي ممارسة شخصية وسياسية. وتقول: ”استعنت بتدوين أحلامي وكذلك بالخضوع لاختبارات مناعية لكشف التأثير المُدَمّر للإفراط. وقد كانت تجربة مُرهقة، ومنها أيقنت أن ضرورة التقليل من الإفراط تعادل ضرورة التقليل مما نتناوله من سُكّر. فاهتمامي بذاتي لا يجدر أن يندرج تحت بند الانغماس بالملذات وإنما هو أحد أنماط المحافظة على الذات وبالتالي هو أحد أنماط الحروب السياسية“.

 

وبالمثل، تستمر الناشطة آنجيلا ديڤيز بتذكير أجيال المستقبل أن النعومة هي حجر الأساس للمجتمع، والقاعدة لحركات العدالة العرقية. فتقول بإحدى مقابلاتها مع Afropunk: ”على أي شخص يعني له إحداث تغيير بالعالم أن يهتم بذاته. فلزمن طويل لم يضع النشطاء اعتبارهم لأهمية العناية بالذات من حيث الغذاء، سلامة العقل والروح“ وتضيف: ”أعتقد أن نشاطات حركتنا كانت لِتُحدِث فعالية أقوى إن كنّا قد أدركنا باكراً أهمية هذا النوع من العناية الذاتية. وشخصياً، بدأت مؤخراً، وتحديداً حين كُنت بالسجن، بممارسة اليوغا والتأمّل، وكانت تجربة فردية عالية المستوى. ولاحقاً، أدركت وقع هذه المماراسات على النفس“.

 

كذلك، تقول تريشا هيرسي من وزارة القيلولة: ”امتناعك عن الراحة يعد أحد أشكال العنف ضد جسدك. حيثُ أن توائمك مع نظام ينفي ملكيتك لجسدك ويدعوك للاستمرار بالعمل واعتبارك مجرّد أداة من أدواة الإنتاج هو موت روحي بطيء. وبذلك، تُعَد الراحة أحد أنماط المقاومة حيث أنّها تُعطِّل نظام الرأس مالية وتقاومه“.

 

إن العودة للهواء الطلق يخلق فُرَص لمجتمعاتنا بالتشافي من الصدمات العنصرية والجندرية. وبذلك فإن خلق وقت لتقضيته بالطبيعة والثقة للقيام بذلك لهو بعينه ممارسة حياة النعومة. وقد تم إنشاء منظمات ك Peaks of Colourالتي نظمتها إلى جانب All the Elements و Black2Nature لمساندة فكرة الاستمتاع بالطبيعة والهواء الطلق بصحبة مجموعات متنوعة من حيث الهويات والأعراق.

 

لكن الحقيقة رُغم ذلك هي أن تبنّي نهج الحياة الناعمة ليس بالأمر الهيّن، فهي رحلة إعادة بناء تتطلّب صبر واهتمام. ومن هُنا بدأت كايا نوڤا مؤسسة Grown Mag بتوثيق رحلتها مع مبدأ الفتاة الناعمة عبر التيك توك. حيث توجه عبر حسابها رسالة لأولئك المستصعبين الأمر وتعرض حقيقة غالباً ما يتم استبعادها من الخطاب الشعبي وهي ”المشقة في البحث عن الراحة والآلام التي ينطوي عليها الأمر“. 

 

وتقول: ”اختيار النعومة يعني الترحيب بالضعف، وعندما تكون أكثر ضعفاً فإن الأشياء التى تؤلمك تُصبِح أشد إيلاماً. وأنا ببداية رحلتي مع النعومة، امتلكني شعور يتمثّل بأن العالم قد أصبح أشد قسوة، ولكن حقيقة الأمر هي أنّني أعطيت ذاتي المساحة والوقت لاستشعار عواطفي بدلاً من القفز مباشرةً لمرحلة وضع الحل. وبذلك، فإن تجربتي الأولى مع الفتاة الناعمة لم تكُن سهلة على الإطلاق، ولم تبدُ الأمور ناعمة من الناحية الجمالية. بل بدت قاسية، وكُل يوم يُمثِّل تحدٍّ للبقاء بالمساحة الناعمة المرتبطة بطلبي للمُساعدة، الجهر بعدم قدرتي القيام بأمر ما، التخفيف عن نفسي بدل من أخذ كافة الأمور برمّتها على عاتقي، والمحافظة على البقاء بهذه المساحة وبما تحملها من مشاعر“.

 

والنعومة كعملية مقاومة تعزز أعمال نادين آيچوير، المولودة بجنوب شرق لندن والحائزة على جوائز عدة. فهي أوّل امرأة ملوّنة على الإطلاق تصوّر غلاف لمجلة ڤوغ، ومن خلال هويتها النيجيرية الچامايكية، تستعرض معايير جديدة للجمال بإضفائها الحياة للثقافات المتنوعة وإبراز فرادتها. والآن، تُعرَض أعمال   آيچوير بمعرض ساتشي كجزء من معرض The New Black Vanguard. وفيه نجد عمل “البهجة كوسيلة مقاومة“ والذي يتمثّل بابتسامة مبهجة وسط هيمنة تول برتقالي اللون. إضافةً إلى صور من حملتها الأخيرة لنينا ريتشي والتي إحداها صورة لأربع نساء داكنات، يرتدين الباستيل ويرتكزن على قوة بعضهن البعض كتجسيد فعلي للنعومة.

 

 

 

تقول  آيچوير ل BBC الثقافية: ”بالماضي ولازلنا لليوم نعرض العديد من المشاهد لبشر سود وهم يعانون، يسجنون أو يهانون، وبمرور الوقت، خلقت هذه الصور صورة نمطية عن ذوي البشرة الداكنة. ولطالما تسائلت، لماذا مشاركة بهجة ذوي البشرة الداكنة لا تُعادِل مشاركة صدماتهم؟ ولهذا السبب، وكوني مصورة فوتوغرافية، آثرت التقاط ما يبرز الجمال، السعادة، المشاركة، إضافةً إلى إبراز الجانب الناعم الموجود بكل فرد منّا والذي غالباً ما يكون مستتراً. وبفضل عملي مع مرور الوقت، تعلّمت أن أعطي ذاتي الحب والاهتمام الذي أحتاجه، رغم أن ذلك ليس بالأمر الهيّن خاصةً كوني امرأة داكنة، إلّا أن هذا بحد ذاته عزز من أهمية اطمئناني على نفسي من حين لآخر، وأؤمن أن على كل فرد القيام بذلك أيضاً.

 

إن النساء صاحبات البشرة الداكنة الرائدات بإعلاء شأن الملذات البسيطة الجريئة، والمُندَرجة الآن تحت بند الحياة الناعمة، يمكن اعتبارهن من الطليعة. تقول آيچوير: ”جميعنا نعرف قوة الصور، فقد شكلّت حياة من سبقونا وستشكّل حياة من سيأتوا بعدنا. وعليه، فنحن نخلق مرجع لوجود أكثر نعومة، فمراجع الحياة الخشنة ستظل موجودة للأبد، لكنّها بحقيقة الأمر ليست الخيار الأوحد“.

 

وفيما يتعلّق باتجاه وسائل التواصل الاجتماعي ودعمها لحركة النساء الداكنات، الرائدات بقيادة إعادة تعريف القوة بجعلها مرتكزة على النعومة، والمطالبة بحياة يملؤها البهجة والتشافي مما عانينه، فهذا يُعَد أحد أشكال الثورة الهادئة. وعليه، فالتقومي بارتداء ملابسك الأكثر راحة، ولا تترددي باصطحاب نفسك لنزهة على الأقدام، أو الاستلقاء أمام النار وهيئى نفسك للسماح باستشعار الضعف. كوني دوماً رقيقة مع ذاتك وأنتِ تجابهين حواراتك الداخلية التي تتطلّب إعادتها مراراً. والأهم، إعشقي ذاتك واستشعري التحرر حيث تجاهل الأنماط والعادات والقيود، وانغمسي بطاقات إبداعك وإمكانياتك التى لا حصر لها، والمنبثقة من نغمات حياتك الناعمة.



المقال أعلاه ترجمته كَريمان حامد، وهو مأخوذ من مقال نشره موقع البي بي سي الثقافي
 للكاتبة إيڤي موير، بتاريخ ٥ ديسمبر ٢٠٢٢، تحت عنوان






  

5/19/2023

كُرّاس غير مشروع | قوة كامنة بمُذَكِّرات سرية

لا شك أنّه ستتملكك نشوى غير مشروعة إن اطّلعت على مذكرات أحد ما وإن كانت من وحي خيال كاتبها. لكن لا يعني ذلك أن جميعها سيُغدِق عليك بقوة مشاعرية تأسرك كتلك التي خطتها آلبا دي سيسبيديس عام ١٩٥٢، بروايتها ”كرّاس غير مشروع“. 

 

فبالاطلاع على السطر الاستهلالي للرواية: ”كنت مخطئة بشرائي هذا الكُرّاس، جداً مخطئة“، تُدرك كقاريء أن بطلة الرواية تسطر اعترافات بها شيء من الخطورة من منظورها.

 

 وبالحديث عن البطلة، فأنتَ تُقابل سيدة بعمر الثالثة والأربعون، بزمن ما بعد الحرب الإيطالية، متزوجة وأم لطفلين، تمتلكها الجرأة للمرة الأولى، لأن تعبّر بصدق لنفسها عن أفكارها، مشاعرها ورغباتها، بصفحات كرّاسها. وما يعزز من الفضول نحو تلك الرواية هو معرفة أنها قد مُنعت طباعتها لعقود، ولم يتم إعادة نشرها سوى حديثاً. بدايةً باللغة الإيطالية، ومن ثَمَّ باللغة الإنجليزية  على يد المترجمة آن جولدستين، التي تُعرَف بترجماتها لأعمال الينا فيرانتيس، حيثُ أنّ الأخيرة هي من لفتت انتباهها ل آلبا دي سيسبيديس، حين أشارت إليها مرّتين بكتابها الذي أُصدرَ عام ٢٠٠٣ ”فرانتوماغليا - رحلة كاتب“. تقول جولدستين: ”إن إلينا لديها قائمة من الكتّاب الملهمين و دي سيسبيدس واحدة منهم“. ثم تقول: ”لقد حاولت على إثر ذلك تتبع أعمالها إلّا أنني لم أجد أي منها، كدتُّ أُجَن“. 

 

كانت آلبا دي سيسبيديس بزمانها، واحدة من أشهر الكتّاب بإيطاليا وغيرها من البلدان. تقول جولدستين: ”كانت الكاتبة الإيطالية معروفة جداً بأيامها، ثمّ بدأ سيطها يتلاشى تدريجياً بشكل غامض هي وغيرها من الكاتبات وقتذاك“. وحين حصلت جولدستين على النسخة الإيطالية من ”كُرّاس غير مشروع“ عبّرت عن ذهولها قائلةً: ”لكم هي مبهرة الحداثة في وقائع المذكرات، فالأمور التي تراها وتكشفها البطلة هي ذاتها ما نعاني منه الآن، وهذا بحد ذاته يدفعك تلقائياً للانجذاب والاندماج مع وقائع الأحداث، وعليه، أرى أن على الجميع قراءة الكتاب“. 

 

آن جولدستين، ليست وحدها من اهتمت بكتابات سيسبيديس، فالحاصلة على جائزة نوبل للآداب بالعام الماضي، آني إرنو، أشادت: ”كانت تجربة القراءة لسيسبيديس معي أشبه باقتحام عالم جديد غامض“. كذلك الكاتبة چومبا لاهاري، والتي ساهمت بالمقدمة الاستهلالية لطبعة ”كرّاس غير مشروع“ الحديثة، عبّرت عن رأيها قائلةً: ”كتابات سيسبيديس ذات أهمية كبيرة، فلازالت تعاني المرأة من السخرية من آرائها، التي يتم التعتيم عليها، بل ووصمها أحياناً بالخطورة. وسيسبيديس عبّرت بحرفية عالية عن حق المرأة بالكتابة، وهو حق لا ينبغي أن يُسلَب بأي شكل من الأشكال“.

 

ما بين سطور الكتاب

 

الكتاب عبارة عن مذكرات تسطرها ڤاليريا كوساتي ذات الثلاث وأربعون عاماً بعام ال ١٩٥٠. هي زوجة لميشيل وأم لشابين يافعين، ميريلا وريكاردو. كما أنها وعلى غير المألوف لسيدات ذلك الوقت، تعمل بوظيفة مكتبية.

 

ذات يوم، بأحد صباحات يوم الأحد، تذهب ڤاليريا للمُتجر لشراء سجائر لزوجها وتُلاحظ كومة من الدفاتر بجوار النافذة، سوداء، لامعة وسميكة كتلك التي يستخدمها عادةً طلاب المدارس. لتجد نفسها تطلب من البائع شراء دفتر منهم، ليجيبها على الفور بأنه ووفقاً للقانون، غير مصرح له  بأيام الأحد بيع أي شيء عدى السجائر. لم يكن منها سوى أن ترجو وتُصِر على مطلبها، ليرضخ  البائع بنهاية الأمر طالباً منها تخبئته بمعطفها خشية أن يكشفها الحارس.

 

تعود للمنزل ولا يؤثر ذلك على سرية الكُرّاس، حيث أبقته مخبأ بعيد عن أسرتها بعد أن كتبت اسمها عليه. ذلك الاسم الذي كادت أن تنساه في ظل مناداة زوجها لها ب ”ماما“ تماماً كالأبناء، ومناداة والديها لها ب ”بيبي“.

 

ويحدث أن خطر ببالها بأحد الأيام عشاءً أن تسأل أفراد أسرتها عن فكرة تدوين مذكراتها، فما كان الرد سوى مزيج من السخرية والاستنكار من أن يكون لديها ما يستحق التدوين من الأساس. ”ماذا ستكتبين يا ماما؟“ يقول زوجها.  

 

بالبداية، قاست ڤاليريا مشاعر اعتقاد أنّها بالفعل لا تملك ما تكتب عنه، إلى جانب معاناة تخبئة الكُرّاس، فتارةً تضعه بسلّة الخياطة، وتارةً بخزانة الملابس ثم تنقله لحقيبة السفر. فهي لم تكن 

تملك حتى درجاً يخصها، وبذلك، أصبحت مذكراتها هي مساحتها الخاصة الوحيدة. وعليه، سرعان ما تطورت علاقتها بها وأصبحت تدوّن مشاعرها بمزيد من التفاصيل - كتعبيرها مثلاً عن عدم قدرتها على التواصل مع ابنتها، وخيبة أملها من خيارات ابنها، فضلاً عن استيائها من حياتها الزوجية الباهتة. فباتت تستيقظ لساعات متأخرة من الليل مدعيةً الأرق حتى يتسنّى لها الوقت والخصوصية للتدوين.

 

وبتدوينها لأفكارها ومشاعرها، بدأت تعيد اكتشافها لذاتها، احتياجاتها ورغباتها الضائعة وسط واجباتها المنزلية اليومية، فتكتب: ”لطالما اعتقدت أنّني شخص شفاف وبسيط وجعبتي لا تحوي مفاجآت لي أو لغيري“.

 

ومن هُنا، يتكشّف أن هنالك فجوة متنامية بين ما تُظهره البطلة لعائلتها وأصدقائها، وبين ما تكشفه على صفحات مذكراتها. فتقول: ”إنّني أبحث عن الوقت الذي ألتقِ به ذاتي الحقيقية، عبر سطور مذكراتي“. 

 

لكن، ما يحدث بمرور الوقت ومع تطور انغماسها بتحليل تفاصيل حياتها، تُصبِح البطلة أكثر أرقاً، فتقول: ”كلّما ازداد تعرُّفي على ذاتي، كُلّما ازداد شعوري بالضياع“. وبنهاية الكتاب، تتحوّل الحُريّة التي جلبتها لها الكتابة إلى خوف. فتقول: ”مواجهة صفحاتي تملؤني بالخوف، فكل مشاعري التي أُشرِّحها مُعرّضة للتعفُّن، وبالتالي قد تتحوّل إلى سُم قاتل، وأنا واعية تماماً بأنّني أصيرُ مجرماً كلّما حاولت أن أكون القاضي“.

 

تم نشر الرواية بدايةً على شكل حلقات متسلسلة وعلى مدار ستة أشهر بمجلة La Settimana Incom Illustrata. وعلى غرار بطلة قصتها، احتفظت دي سيسبيديس بمذكرات تخصها، على الرغم من الاختلاف البعيد بين حياتي السيدتين.

 

وُلدت دي سيسبيديس بروما عام ١٩١١ لأب كوبي وأم إيطالية. جدها هو كارلوس مانويل دي سيسبيديس الذي قاد معركة كوبا من أجل الاستقلال عن إسبانيا وتقلّد منصب أوّل رئيس للبلاد. كما شغل والدها ذات المنصب لفترة وجيزة.

 

تزوجت آلبا بعمر ال١٥ وأنجبت طفلها الأول بعمر ال١٦، ثم تطلقت من زوجها بعمر ال٢٠. امتهنت الكتابة بعد ذلك، حيث عملت بداية كصحفية ثم لاحقاً كروائية وكاتبة سيناريو. إلّا أنّها سُجِنَت مرتين، الأولى عام ١٩٣٥ والثانية عام ١٩٤٣ لنشاطاتها المناهضة للفاشية.

 

قامت بتأسيس المجلة الأدبية  Mercurio عام ١٩٤٨ حيث نشرت كتابات لإيرنيست همنغواي ومعاصرتها ناتاليا جنزبرج. كما اشتهرت بعامودها الخاص الذي تُسدي به نصائح من منظورها بعام ١٩٥٠. تقول جولدستين: ”القاسم المشترك بين دي سيسبيديس وبطلة روايتها هو الصعاب التي واجهتها والتي منها التوفيق بين متطلبات الزواج ومتطلبات العمل، وما يعنيه أن تكون امرأة وكون ذلك يعيقها عن القيام بأمور معينة، والتساؤلات المتمحورة حول الأسباب التي لا تُمكّنها من القيام بهذه الأمور.

 

تسييس المتطلبات الشخصية


سيسبيديس كانت تكتب بوقت كانت فيه النساء يطالبن بالتغيير في إيطاليا، حيث حصلن على حق التصويت - فقط - بالعام ١٩٤٥. تقول جولدستين: ”كانت تدور روايتها الأولى ”لا رجعة“ حول مجموعة من النساء يصارعن من أجل مستقبل أفضل بعالم يحكمه الرجال والقيود التي فرضوها عليهن“. وتضيف: ”حاول نظام الفاشية منع الرواية من النشر لأنّه يدعو النساء للحياد عن الإطار المحدد لهن، إلّا أنّها نُشِرَت بنهاية المطاف عام ١٩٣٨ وحققت نجاح كبير ومبيعات ساحقة، حيثُ تجاوب معه الناس بالعموم والنساء على وجه الخصوص“. 

 

دي سيسبيديس كانت تعبّر عن النساء اللاتي يعشن حياة يغلب عليها طابع الرتابة واللاتي تفوق معاناتهن معاناتها هي الشخصية. إلّا أن هذا الصدق الراديكالي بمعالجة الحياة الداخلية لهؤلاء النساء قد ألهم كاتبات أخريات ليحذون حذوها بمن في فيهن الكاتبة الينا فيرانتي. 

 

تقول جولدستين المخضرمة بكتابات فيرانتي: ”لقد تبيّنت مدى تشابه فكر الكاتبتين بعد قرائتي الأولى لسيسبيديس. صحيح أن هناك تباين واضح بأسلوبهما حيث أن التركيبات الشخصية لأبطال قصص فيرانتي إلى جانب طبقاتهم الاجتماعية وغيرها من التفاصيل تختلف جل الاختلاف عن تلك الخاصة بسيسبيديس، إلّا أن القاسم المشترك بين أبطال الكاتبتين هو القضايا التي يواجهونها والتي  تتمحور حول إثبات الذات، تحديات المرأة، المجتمع والأسرة“.

 

ورغم ذلك، لم يصل نجاح سيسبيديس لدرجة النجاح الذي حققته فيرانتي التي نجحت ببيع رباعيتها لأكثر من خمسة عشر مليون نسخة - بنابولي فقط -  إلى جانب نشرها بخمس وأربعين لغة مختلفة واحيائها بعمل تلفزيوني أشاد به الجمهور والنقاد. لذلك يأتي هُنا السؤال، إذا كانت سيسبيديس من أشهر الكاتبات الإيطاليات بحقبة الأربعينيات والخمسينيات، فما الذي حصل؟

 

يعتقد آدم فرودينهيم، الناشر والمدير الإداري ل Pushkin Press، الناشرة لأعمال دي سيسبيديس، أن شعبيتها كامرأة بالمؤسسة الأدبية بذلك الوقت لم تكُن لصالحها. فيقول: ”على الأرجح كان هناك نوع من العجرفة حيال الأعمال الناجحة“. ويُضيف: ”كانت كتب دي سيسبيديس تُطبَع وتُنشَر وتُستَقبَل استقبالاً حسناً حينذاك، إلّا أنّها لم تكن موضع تقدير بالمؤسسة التي يرؤسها الرجال الزاعمين أنّها كتابات نسائية موجهة للنساء“.

 

ورُغم تلاشيها عن الأنظار في إيطاليا، كان هناك مكان واحد تألقت شعبية سيسبيديس فيه. فبعد انتخاب محمد خاتمي كرئيس عام ١٩٩٧، كانت إيران تمُر بشكل من أشكال الثورة الأدبية إلى جانب تخفيف الرقابة الحكومية، ممّا ساهم في نشر العديد من الكتب التى كان ممنوع نشرها سابقاً. فهذا الكاتب والمؤرّخ آراش عزيزي الذي كان مراهقاً ببداية الألفينيات يقول: ”إذا ذهبت إلى مقهى في تلك الحقبة بإيران، ستجد الجميع يتحدّث عن الكُتُب. فقد كان الأدب يُنظَر إليه كمصدر قوة بإمكانها تغيير العالم“.

 

أمّا باهمن فارزانيه، المُترجم الإيراني المرموق، الذي ترجم العديد من الكتب الإسبانية والإيطالية، بما في ذلك رواية جابرييل جارسيا ماركيز ”مائة عام من العزلة“، قام بترجمة عدد من أعمال دي سيسبيديس. يقول عزيزي: ”عندما يُتَرجِم شخص كباهمن فارزانيه كتاب، فأنتَ تقتنِ الكتاب من أجل المُتَرجِم، فهو بمثابة وسيط ثقافي“. وعليه، فإن العديد من أعمال دي سيسبيديس تم نشرها بالفارسية. إلّا أنّ رواية ”كُرّاس غير مشروع" كانت الأكثر تميزاً . ويُضيف: ”لقد كان أحَد أكثر الكتب المعروفة بتلك الحقبة، وأصدقائي ممن هم بعمري يذكرون هذا الكتاب“.

 

كما يتذكّر شعبيته وسط النساء، ليس فقط من كُنَّ بعمره، ولكن كذلك من كُنَّ بعمر الثلاثينيات والأربيعينيات. فيقول: ”أتذكر انفعال العديد من معارفي الإناث تجاه زوج بطلة الرواية باعتياده على مناداتها (ماما)، مما كان يُشعرها بالإحباط. فلا يجدر تصنيف النساء تحت بند الأمومة وفقط، حسب تعبيرهن“.

 

نهج المذكرات المخبأة مبني على مساحة تدوين الأفكار التي لا يُسمَح بالإفصاح عنها علناً، ما يُمثّل صدى هؤلاء من يحيون بمجتمعات قمعية. يقول عزيزي: ”شخصياً، أكثر ما فتَنّي بالرواية هي نبرة الاعتراف“. ويُضيف: ”إن فكرة إمكانية الوصول لنوع من التحرر عن طريق الكلمات هي فكرة بغاية القوة لنا كأشخاص نشنا بجمهورية إسلامية قمعية مَنَعَتنا من القيام بالكثير من الأشياء، فعشنا بذلك حياة مزدوجة“.

 

ويُعبّر عزيزي عن ابتهاجه لإتاحة الفرصة للناس باكتشاف هذا الكتاب، فيقول: ”أنا متشوق بمشاركة أصدقائي بالولايات المتحدة وجميع أنحاء العالم شيء كان جزء من نشأتي، فالكتاب يُمثّل شهادة لفترة حيوية من شبابي وكذلك شهادة لقوة الأدب“.

 

إذاً، لماذا يتم إعادة اكتشاف دي سيسبيديس الآن؟ تقول جولدستين: ”أعتقد أن ليفرانتي علاقة كبيرة بهذا الأمر، فشعبيتها دفعت الناس للبحث عن غيرها من الكاتبات الإيطاليات“. أمّا فرودينهيم فيؤكد على أن هُناك طفرة حاصلة بالاهتمام بالقلم النسائي والمرتبط بأواخر الأربعينيات وحتى الستينيات، حيث كانت دي سيسبيديس جزء من هذه الحقبة. وعليه، فإن دار النشر Pushkin تخطط لنشر كتابين آخَرَيْن لدي سيسبيديس خلال العامين القادمين وهما ”جانبها من القصة - ١٩٤٩“ و ”بلا رجعة“.       

 

يقول فرودينهيم: ”إعادة الاكتشافات الأدبية أمر مثير حقاً، رُغم قلة الإقبال عليها من قِبَل الناس لغموضها وصعوبة قراءتها“، ثم يُضيف: ”المثير حقاً بالنسبة لي برواية "كُرّاس غير مشروع“  تحديداً هو سلاسته وقابليته للقراءة بكل ما يحويه من حبكة مؤثرة وأحداث متلاحقة. برأيي أنّه من الكتب التي يصعب تركها، وأعتقد أن كل من قرأه على دراية بهذا الأمر“.



 المقال أعلاه ترجمته كَريمان حامد، وهو مأخوذ من مقال نشره موقع البي بي سي الثقافي للكاتبة كلير ثورب بتاريخ ٨ مارس ٢٠٢٣، تحت عنوان




9/30/2017

وعلى حين عُزلة، صار من العباقرة

"لا يستيقظ في العزلة إلّا ما هو كامن فينا أصلاً"
لطالما تراودني العبارة التي قالها "حسين البرغوثي" كلّما شرعت في مطالعة أحد السير الذاتية لكبار المفكرين والفلاسفة. بعد أن ازددتُ يقيناً أن غالبيتهم قد مروا بالمرحلة التي يمكن تسميتها ب"كشف السر". نعم السر. السر الذي يحمل في باطنه مكمن العبقرية وكان حتماً مختزلاً في نواة ذلك الإنسان، وانبثق حين فجأة ليؤول في النهاية لخلق عبقري سيكن له من الحصاد ما يكفي لإشباع قرون و أزمنة متعاقبة من بعد رحيله.
وغالبية الأمر، يكن الفضول المسيطر .. هو النبش عن هذه "الفجأة"، أين كانت؟ ومتى ظهرت؟ والأهم .. كيف ظهرت؟
صحيح أن الكثير منهم لا يكن لهذا العنصر المثير المسمى ب"الفجأة" نصيب في حياتهم. ويكن الأمر أقل إثارة وأكثر يسراً في البحث. وبمطالعة يسيرة عن حياتهم المبكرة، يمكن الكشف عن أسباب بديهية تكن كفيلة بدورها لصنع طفل ذا عقل متيقظ قادرعلى إضافة شيء جديد بمرحلة ما من عمره. كما الحال مع "تشارلز داروين" -على سبيل المثال- الذي يكفي معرفة تقديس أبيه للعلم وامتهانه للطب، بالإضافة لجده كطبيب وفيلسوف، للتيقن أن الجينات وبيئة النشأة سيكونا لهما من الدور الجلي في احتمالية خلق من سيكن له شأن في المستقبل.
لكن .. على الجانب الأخر .. لا زال السؤال حياً ..! ماذا عن أصحاب السر؟ ماذا عن هؤلاء الذين لم تكشف حياتهم المبكرة عن أي بوادر أو مبشرات لعبقريتهم المستقبلية؟ من مرت بهم السنون، وتقدموا بالعمر ليصبحوا معلمون، رجال دين، أطباء، نساء ورجال، يذهبون ويجيئون كل يوم، يؤدون مهماتهم اليومية بلا هدف أو دراية بما ستؤول بهم الحياة. لينتقلوا من دائرة "العاديون" إلى فئة "العباقرة" !
السرعزيزي الفاضل، في تلك اللحظة التي أيقن بها هذا الشخص العادي أنه "إنسان".. وقد أنسته الحياة بصخبها ومللها أبعاده الإنسانية .. له عقل وروح لهما عليه حق كما هذا الجسد الذي أعمله بطريقة أوتوماتيكية فظة لا معناً لها سوى وقف أي نشاط آخر بعيد عنه.
فكانت "الوقفة مع النفس" .. أو ليكن الأمر أكثر تحديداً كانت "العزلة"..
العزلة
العزلة .. اللحظة الفارقة .. الحدث الذي زلزل كيان هذا الجسد لتوقظه من أُحاديته وتذكره أنه لم يخلق وحيداً، فتعيد إليه من جديد عقله المفكر وروحه الملهمة المتفردة به وحده .. فتتجلّى الإلهامات التي سيكن لها موقعاً يوماً ما في كتب التاريخ، وسترددها وتناقشها أجيال وأجيال من بعده .. دون توقف
وقصتها عزيزي، ليست وليدة سنوات مضت. بل عصور وعصور - أزمنة وأزمنة - أيقن بها الإنسان القديم ضرورة توحده مع العالم ككل بكيانه الكامل. فكانت نشأة الديانات والأفكار والفلسفات القديمة ومن بعدها الحديثة. والتي لولاها، ولولا انسحاب هؤلاء الأفراد من صخب حياتهم، لما كان لهذه الإنتاجات وجود في واقعنا، ولكان رحيلهم عن العالم كمجيئهم إليه. كملايين البشر ممن أخلوا بإنسانيتهم الحقة، فأخلت بدورها الإفصاح عن تفردهم وجوهر أنفسهم.
العزلة والديانات السماوية
العزلة في الديانات السماوية والأرضية على حد سواء دور فعال وجزء لا يتجزآ من جوهرهم جميعاً. فيكاد لا يخلو نبي من الأنبياء إلاّ وكانت تحتل نصيب من سيرته، ونقطة فارقة بين مرحلتين جذريتين بحياته، ولا سبيل لنا سوى الإقرار بالرابط الوثيق الجامع بين "حامل الرسالة النبوية" وبين "العزلة"
فكانت بداية الديانات السماوية مع الديانة اليهودية ونبي الله "موسى" بوصاياه العشر، التي لم يكن لُيقدّر له أن يوثقها على ألواحه المقدسة دون البعد والاعتكاف. وكانت الملاقاة بينه وبين الرب سبحانه والأمر الإلهي يسبق تلك اللحظة الجليلة بطلب البعد عن العامة والاعتكاف الكامل ٤٠ يوماً بالتمام، لا لغرض سوى لحكمة إلهية تكمن في تأهيل الروح تأهيلاً كاملاً لملاقاته، والتي لم تكن لتتم ولم تكن للوصايا أن تُكتب إن كانت عوالق الحياة لازالت تشوِّب هذا الكيان المتجسد في النبي "موسى".
ولم يكن الأمر كثير الاختلاف مع الديانة المسيحية والنبي "عيسى" باختياره للزهد والانعزال والصوم الكامل ٤٠ يوماً، ليخرج بعدها محققاً المعادلة العبقرية للذات، الجامعة بين السماحة، القوة، والعزيمة التأهبية لما سيلقاه بعد حين في سنوات رسالته.
ثم تجلت العزلة في حياة النبي الكريم "محمد" من قبل دخوله في النبوة وعلمه بالرسالة التي سيوكل بها من خالق الكون سبحانه. فكان يستحلي الخلوة بالنفس وسط الطبيعة الصحراوية وإطلاق روحه للعنان بين الحين والحين. ثم تأتي الحكمة الإلهية أن تكن اللحظة الفارقة مع هذا الإنسان ويكن نزول الوحي عليه وسط خلوته، وسط سمائه، وسط صفاء ذهنه، لتكن إشارة للعالم أجمع بقدسية الخلوة ومعناها الجلي في هذا الدين والأديان السماوية جمعاء.
ولا عجب في كون إحدى الطقوس التي ارتكزت عليها الديانات السماوية الثلاث على حد سواء "الصلاة"، التي تعد إحدى أهم الركائن والدعائم لثلاثتهم. والفاهم الحقيقي لهذه العبادة المقدسة -باختلاف طقوسها من دين لآخر- يعلم عن ظهر قلب أن جوهرها يتجلى في الخلوة الحقيقية بين "الله" وبين توحد الكيان الثلاثي للفرد "الجسد"، "العقل"، و"الروح"، والتي لو اختل احدهم يفقد هذا الفرض جوهره والمعنى الأسمى الذي فُرِض من أجله.
العزلة والديانات الأرضية
وبذكر الديانات الأرضية لا مفر من سطوع نجم "بودا" .. ذلك الراهب القديم الذي توصل في ذروة شبابه أن غاية الوصول للحقيقة وجوهر الروح لا طريق لهما سوى بالتأمل والانعزال. فآثر الفرار من برجه العاجي وثرائه الفاحش لحياة التقشف والزهد. قضى خلالها سنوات في الاعتكاف مع الطبيعة والتوائم مع الكون ليخرج بعدها حاملاً تعاليمه التي تحولت فيما بعد لعقيدة يعتنقها ملايين البشر وفلسفة يجلّها وينتهجها آخرون من معتنقي ديانات مخالفة، في محاولة للبعد عن آلام الحياة والتوصل لحالة "السلام الروحي". ليعد واحداً من عباقرة البشرية ومُصنفاً في المركز الرابع ضمن قائمة وليم هارت في كتابه الشهير "الخالدون المائة الأكثر تأثيراً في التاريخ".
العزلة والفلاسفة
بطبيعة الحال، عند ذكر مصطلح "الفيلسوف" والذي يعني حرفياً "المُحِب للحكمة" للفرد العادي، تتبادر الصورة الذهنية لذاك الرجل المنطوي على ذاته، والمنكب طيلة وقته مع كتبه وأوراقه صاباً بها حكمته والمسماة لاحقاً بفلسفته. وفعلياً لا يختلف الأمر في حقيقته عمّا يتبادر إلى الأذهان من تصور. فجميع الفلاسفة باختلاف عصورهم، معتقداتهم، إيمانياتهم، يجتمعون في نقطة التقاء تختزل في كلمة "الميل للعزلة". ولم يسبق لفيلسوف أياً كان اسمه، ابتداءً من فلاسفة الإغريق القدماء، مروراً بالفلاسفة الإسلاميين وفلاسفة الغرب، وانتهاءً بفلاسفة العصر الحديث إلّا ومر بتلك المرحلة.
فلاسفة الغرب
فهذا أبو الفلسفة الحديثة، الرياضي والفيزيائي والفيلسوف العقلاني رينيه ديكارت، صاحب أشهر النظريات الفلسفية ذات المردود الصاخب منذ ظهورها للعلن وحتى يومنا هذا، قد آثر طيلة سنوات حياته البعد عن الضجيج والبحث عن مأواً آمن لعقله يمكنه من التنقيب به وإخراج ما يعتليه من أفكار. فما كان عجيباً منه أن يجوب أوروبا شرقاً وغرباً ٢٤ مرة بحثاً في كل مرة - فقط - عن عزلة تبعده عن الصخب المحاط به من كل اتجاه. وما كان منه إلّا أن يقول بعد إيجاده لضالته وارتياحه بمدينة أمستردام "هناك، وسط الجموع المكتظة من شعب عظيم نشيط، استطعت أن أعيش وحيداً منعزلاً، وكأني في صحراء نائية". ومن عزلته ينسب الفضل الجليل في أشهر إسهاماته الفلسفية "مقال في المنهج"، الذي نُسب له الشأن في نشأة العقلانية الغربية.
ثم كان إيمانويل كانت، أحد أعظم فلاسفة القرن الثامن عشر، ومبتدع فلسفته السابقة لعصرها الجامعة بين الفكر العقلاني والفكر التجريبي. عُرف بعزلته وتقديسه لغرفته التي لم يُحدث بها أي تغيير طيلة إقامته بها اقتناعاً منه أن أي تغيير يحدث بها يعرقل فكره. لتكن هذه الغرفة هي رحم أعظم إنتاجاته، مكث بها نحو ١١ سنة في عزلة تامة أثارت جدل من حوله، كانت نتيجتها كتابه العبقري "نقد العقل الخالص"، الذي أعده كبار أساتذة الغرب أفضل كتاب فلسفي كُتب منذ عهد أفلاطون وأرسطو.
ويأتي نيتشة، الفيلسوف الألماني، أحد من أهم فلاسفة العصر الحديث والأكثر تأثيراً على الفكر النازي فيما بعد. كانت العزلة رفيقه الحميم طيلة مراحل عمره، ليكن من أكثر من تغزلوا بها بشكل صريح كلما واتته الفرصة. فرحلته معها بدأت من أزمة مرضه في بداية حياته، حينما تحتم عليه قضاء فترة نقاهته بأعالي الجبال. لتكن الغرفة الخاوية التي استأجرها قرب أعالي سفوح الألب بسويسرا هي مقر أعظم إلهاماته التي خطّها في كتابه الأشهر "هكذا تحدث زرادشت" سارداً فيه كافة اعتقاداته وإيمانياته، والذي أعده بشخصه إنجيله الخاص، عاصفاً بما أتت به الديانات ومنادياً بشدة بمبدأ القوة والبقاء للأقوى، ليكن هذا الكتاب المتولد من منبع معاناته مع ألم المرض وعزلته الكاملة هو أحد أهم أوقدة الفاشية مع موسيليني والنازية مع هتلر فيما بعد.
فلاسفة الإسلام
وبذكر الاعتكاف عند فلاسفة الإسلام، يبرز الفارابي، الفيلسوف المتصوف، أحد أهم مبتدعي الصوفية العقلانية، المتمحورة حول التأمل الفكري العميق والخلو إلى الذات لحين وصول العقل لأعلى درجات التأهب والصفاء الكامل، السامح حينئذٍ بالاندماج مع الذات الإلهية. وقد التزم الفارابي بصوفيته هذه، ولزم حياة الزهد والتقشف، وامتنع عن الزواج، مفضلاً وحدته والاستسلام لفكره بين البساتين وشواطئ الأنهار، فتكن حصيلته من الفكر أن كتب في كافة العلوم ومن الإبداع ما مكنه من ابتكار آلة من أجمل الآلات المسماة بالقانون فيما بعد. فيكن نصيبه أن يحصد لقب "المعلم الثاني" أسوة بالفيلسوف الإغريقي "أرسطو" الملقب ب"المعلم الأول" لإلمامه بكافة العلوم البشرية النابعة من كهف عزلته.
ثم جاء أبو حامد الغزّالي، لتأتي حكايته مع العزلة في مرحلة متقدمة نسبياً من عمره. بعد أن حصد كمدرس في المدرسة السلجوقية ببغداد، من المكانة المرموقة ما قد يؤهله للنعيم بها وبما ناله من الجاه والسيط الحسن. لكن ما حدث معه كان مغايراً، فقد أتته الصحوة التي أيقظته من غفوته على حد تعبيره، لينطلق خفية في عتمة الليل في رحلة طويلة مع العزلة دامت ١١ عاماً. انتهج خلالها الصوفية وجاب بها العديد من الدول العربية، معتكفاً بمساجدها، ناهلاً من علومها، قارئاً من كتبها، ليكن له من القوة الفكرية ما مكنه من كتابة أعظم إلهاماته "إحياء علوم الدين"، الممتزج بروح الصوفية والذي أخذ شهرةً فاقت كل مؤلفاته التي كتبها قبل رحلة اعتكافه، ليُترجَم فيما بعد لمعظم لغات العالم، وقيل فيه من بعض ما قيل فيه "من لم يقرأ الإحياء فليس من الأحياء".
ومن غير المعقول عند التطرق لأمر العزلة، غِفلان ابن خلدون، ذلك الفيلسوف العظيم، الرحالة المتنقل بين أسفار الدول العربية ذهاباً وإياباً، الناشئ في حياة هَبَته فرصة الاختلاط بكبار الحكام والوزراء والتمرغ بعمق سياسات الدول، ومعرفة خباياها وأسرارها بطبيعة حاله. إلى أن واتته مرحلة الأزمات، وصلت بها تدهور علاقاته السياسية إلى أشدها، والمؤامرات ضده إلى ذروتها، إلى جانب وباء الطاعون الذي أودى بحياة والديه والعديد من مقربيه. ليتدهور به الأمر إلى أزمة نفسية أقرب للاكتئاب. يقرر خلالها الهروب إلى ذاته والاختلاء بعيداً عن الضجيج المطوق به من كل اتجاه. فتكُن قلعة بني سويف بمصر مقر خلوته ومقر ولادة أعظم إنتاجاته، ليصب جل خبرته ورؤيته، واستنتاجاته الكاملة المتمحورة حول الاقتصاد، والتاريخ، والعمران، وكل ما يكفل من منظوره تأسيس دولة مستقلة ناجحة. في كتابه الأشهر "العبر- ديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" والشهير ب"مقدمة ابن خلدون". وبهذا الكتاب، المتولد من عزلته، نشأ "علم الاجتماع" ونُسب تأسيسه إليه، ولم يأتِ من بعده من تمكن من سبقه ومنافسته في هذا المجال. ليُعَد من صميم ذلك دون أدنى ريب من عباقرة التاريخ.
عزلة إجبارية
صحيح أن كل من سبق ذكرهم كانت العزلة بالنسبة لهم خيارية، وسعوا إليها بمحض إرادتهم، لكن على الصعيد الآخر العديد ممن صُنفوا تحد بند العباقرة قد فَرَضَت العزلة نفسها عليهم اجبارياً، لينصاعوا إليها مُرغمين كارهين. غير مدركين أن هذا الشر الذي أصابهم من حيث لا يدروا، هو ذاته المصدر الذي كان منه أن صنع منهم أصحاب مجد، مجرد ذكر أسمائهم، تنحني القامات إجلالاً ووقاراً.
كان الحال مع الموسيقار العظيم إن لم يكن الأعظم في تاريخ الموسيقى ككل بيتهوڤين أن أقحمته العزلة في صميمها بريعان شبابه رغماً عنه. مُدخِلةً إياه في انعزال داخلي اختاره له الصمم الذي أصابه بثلاثينيات عمره. ليحتدم الصدام بمطلع أربعينياته ويفقد سمعه كاملاً. فتكن معضلته الحق، ومأساته التي أدخلته باكتئاب حاد دفعه لمحاولات انتحار مرات عدة. قائداً إياه بعد حين لعزلة كاملة لم يرفقه بها سوى البيانو خاصته ونوتاته الموسيقية، اعتماداً منه على حسه بتخيل الألحان، دون قدرته على سماع أي منهم! ثم يكن نتاج ذلك أعظم إبداعاته التي تجلّت في موسوعته التاسعة. التي تم عرضها الأول بكبرى مسارح ڤيينا. لينحني لها أكبر الكبراء ويدوى دوي الهُتَّاف ويعم ضجيج التصفيق الحار وتُقذَف القبعات في الهواء، تحيةً وإجلالاً لهذا العبقري العظيم الذي خرج من عزلة يأس دامت ١٢ عاماً مقدماً أسطورة موسيقية لا تملك سوى أن تفرض مبتدعها العظيم، على ساحات عباقرة التاريخ.
ومع ڤان جوخ كان الاكتئاب سيد الموقف أيضاً! الذي أقحمه في عزلة صحبها مشاعر اليأس وعدم استحقاق الحياة، بعد خضوعه لمحاولات يائسة من فرض موهبته الفنية على ساحات الفن في ذلك الوقت. الأمر الذي ضاعف من شعوره بالغربة واللا انتماء على مدار سنواته. لتشتد به الأزمة بآخر مراحل عمره ذاق خلالها أقسى حالات الألم النفسي، الذي ازداد بحادثة قطع أذنه اليسرى والمازال لغزها غامضاً إلى اللحظة! لكن ما لا شك منه هو ذاك الانزواء الذي ألم به بعد الحادثة، ما جعله غريب الأطوار، عصبي المُزاج، ما حتّمَ نقله إلى مصحاً نفسي - ليعش في حالة من العزلة الكاملة دامت نحو العام، لم يكن موقفه منها سوى الانكباب على لوحاته البيضاء، مفرغاً بها كل ما يلم به من مشاعر، لتكن هذه المرحلة من أكثر مراحل رسمه غزارة، أبدع خلالها عشرات اللوحات والبورتريهات. صحيح أنه لم يمكث بعدها طويلاً، بعد أن اشتدت به الأزمة لاحقاً ليمت منتحراً، لكن ما لم يكن يعلمه، أن هذه العزلة التي فرضتها عليه حالات يأسه واكتئابه، كانت سبباً في توليد ابداعاته التي أدرجته كواحد من عظماء الفن التشكيلي والمقدرة بملايين الدولارات فيما بعد!
أمّا المفكر المصري الكبير مصطفى محمود، فقصته مع العزلة رواها بنفسه بإحدى لقائاته المسجلة تلفزيونياً. بدأت مع مرضه الصدري الذي داهمه أثناء دراسته للطب، لتتدهور حالته سوءاً ما أرغمه للتوقف عن الدراسة ثلاث سنوات كاملة. الأمر الذي أدخله بنوبة من اليأس والإحباط. لكن ما حدث حسب سرده، أن العزلة التي فُرضت عليه طيلة الأعوام الثلاث، فتحت له أبواباً لم يكن ليقترب منها لو كان ما أصابه لم يصيبه. مكنته هذه السنوات من اكتشاف ولعه بالأدب بكافة أشكاله وألوانه، لينهل حينها من كتب الفن والشعر والرواية بمدارسهم وأطيافهم المختلفة. ليتطور به الأمر ويجد نفسه قد أصقل موهبة لم يكن يحسب لها حساباً طيلة سنوات عمره السابقة ولم يكن ليتخيل أن سيبزغ نجمه فيها. فقد كتب خلال هذه المدة عدداً من القصص القصيرة التي قام بعرضها لاحقاً على الأديب الكبير عباس محمود العقاد، الذي ما كان منه إلّا أن يشيد بما قدمه له ويعرضه في صالونه الأدبي الأسبوعي بمنزله. حيث كانت الشرارة التي لفتت الأنظار له فيما بعد من كتاب كبار آخرين، فيتم نشر قصصه بمجلة صباح الخير. ومن هنا يعترف المفكر الكبير أن هذه العزلة التي اعتبرها نقمة في وقت من الأوقات هي من صنعت مصطفى محمود الذي نعرفه عن ظهر قلب الآن. والذي ولا شك يعد من عظماء المفكرين بالوطن العربي.
العزلة .. الحرية
الحديث عن العزلة لا ينتهي، وما تم ذكره ما هو سوى قطرات من بحرٍ قلّما يخذل من يقترب منه. مرشداً إياه إلى منابع أبعاده الإنسانية جمعاء. عقله وروحه جنباً إلى جنب مع جسده المُجهد من فرط استخدامه منفرداً. والناهل من منابع إنسانيته لا يكن منه سوى أن يخرج مرتوٍ بسماتٍ كانت تائهة عنه، سمات بصمته الروحية التي لا سبيل سوى أن تفرض نفسها على صفحات التاريخ ليسجلها. والسابر في سير العظماء، غالباً ما سيصطدم بين مرحلتي البداية والنهاية بالعقدة الفاصلة، الحائلة بينهما. ستبدو قاتمة، كئيبة، لزجة، لكن تبقى نقطة النهاية هي الفاصل دوماً والفاصح جهراً أن هذه القتامة لم تكن سوى الضياء الذي أشرق حياة هذا الإنسان. النور الذي سطع على تربة عزلته واحتضنته بذرة برحمها، ليزهر بعد إذٍ ثمرات روحه. روحه التي لم تكن لتزهر زهراتها لو كان اكتُتِبَ لها أن تظل ضائعة في زوبعة الحياة دون أن يُفرِجَ عنها صاحبها.
وبصخب حياتنا هذا، هنيئاً لمن هرب مختاراً، من أدرك قيمة الاعتكاف محاولاً استحضار منابع كيانه، عاملاً بما قاله الدرويش "العزلة هي اختيار المُترف بالممكنات، هي اختيار الحُر". فالتكن الحرية، فالتكن النسائم التي تطلق العنان لما خلف الجسد، لما خلف أسواره، ليرفرف قليلاً ما كان مختبئآً، منطوياً، فارداً جناحيه بعيداً، لأجيال وأجيال، حافراً على صفحات التاريخ سطوراً من ذهب، علّها تبقى، ساردةً قصة إنسان، اختار من قضبان صاخبة أن يتحرر.
كريمان حامد

9/09/2017

بحر الكلمات

على ضفافِ بحر الكلمات رأيتُك ..
كنتُ أرقبك من بعيد ..
تقفزُ و تسبحُ و تغطسُ بغرور ..
تملُّ فتخرجُ متباهياً بجسدك الذي يقطر بكلمات لطالما اشتهيتُ أن أتمرغ فيها، و أضيفها الى قاموسي الذي تشبع بمفردات الزهد و الكبرياء ..
تقتلني تلك القطرات التي تقتلها بأريحية بمنشفتك البيضاء ..
أشيعها بقلبي و حواسي و هم يكادوا ينصهروا من فرط الغبطة و الحسد ..

رأيتني من بعيد ..
اقتربت بجرأة ..
تسألني و جسدك لا يزال يقطر بكلماتك ..
لماذا لا تسبحين؟
أقول لك بكبرياء .. لا أحب السباحة ..
تسألني لمَ؟
أقول لك لا أجيدها ..
تسألني لمَ لا تتعلمين؟
أرد بتأفف .. عقدة مضى عليها زمن .. أفضل التشمس!
تنظر بجرأة و تمارسُ لُعبةَ كلماتك قائلا:ً
على أية حال أكسبك التشمس لوناً جميلاً .. يبدو متناقضاً مع لون شعرك و لكنه أضفى تناقضاً مثيراً ..
تماماً كعينيكِ التي تشع جرأة و انطلاق عكس ما تبدين عليه من جمود و كبرياء شرقيين ..
الم تدركي أن هذا التناقض صنع منك مثيرة بعيدة المنال؟

أقف بغضب .. أقول و أنا أبتعد: لعين وقح ..
تضحك ضحكة خفيفة لا أدرك كنهها .. هل شفقة أم استخفاف ..
تقول بعدها: حمقاء متعجرفة ..
تتصاعد النار في جميع أرجائي .. أكاد أُقتل ..

بينما أبتعد يلحقني صوت صخب الماء  .. و أنت تقفز من جديد .. في بحر الكلمات ..

كريمان حامد