9/30/2017

وعلى حين عُزلة، صار من العباقرة

"لا يستيقظ في العزلة إلّا ما هو كامن فينا أصلاً"
لطالما تراودني العبارة التي قالها "حسين البرغوثي" كلّما شرعت في مطالعة أحد السير الذاتية لكبار المفكرين والفلاسفة. بعد أن ازددتُ يقيناً أن غالبيتهم قد مروا بالمرحلة التي يمكن تسميتها ب"كشف السر". نعم السر. السر الذي يحمل في باطنه مكمن العبقرية وكان حتماً مختزلاً في نواة ذلك الإنسان، وانبثق حين فجأة ليؤول في النهاية لخلق عبقري سيكن له من الحصاد ما يكفي لإشباع قرون و أزمنة متعاقبة من بعد رحيله.
وغالبية الأمر، يكن الفضول المسيطر .. هو النبش عن هذه "الفجأة"، أين كانت؟ ومتى ظهرت؟ والأهم .. كيف ظهرت؟
صحيح أن الكثير منهم لا يكن لهذا العنصر المثير المسمى ب"الفجأة" نصيب في حياتهم. ويكن الأمر أقل إثارة وأكثر يسراً في البحث. وبمطالعة يسيرة عن حياتهم المبكرة، يمكن الكشف عن أسباب بديهية تكن كفيلة بدورها لصنع طفل ذا عقل متيقظ قادرعلى إضافة شيء جديد بمرحلة ما من عمره. كما الحال مع "تشارلز داروين" -على سبيل المثال- الذي يكفي معرفة تقديس أبيه للعلم وامتهانه للطب، بالإضافة لجده كطبيب وفيلسوف، للتيقن أن الجينات وبيئة النشأة سيكونا لهما من الدور الجلي في احتمالية خلق من سيكن له شأن في المستقبل.
لكن .. على الجانب الأخر .. لا زال السؤال حياً ..! ماذا عن أصحاب السر؟ ماذا عن هؤلاء الذين لم تكشف حياتهم المبكرة عن أي بوادر أو مبشرات لعبقريتهم المستقبلية؟ من مرت بهم السنون، وتقدموا بالعمر ليصبحوا معلمون، رجال دين، أطباء، نساء ورجال، يذهبون ويجيئون كل يوم، يؤدون مهماتهم اليومية بلا هدف أو دراية بما ستؤول بهم الحياة. لينتقلوا من دائرة "العاديون" إلى فئة "العباقرة" !
السرعزيزي الفاضل، في تلك اللحظة التي أيقن بها هذا الشخص العادي أنه "إنسان".. وقد أنسته الحياة بصخبها ومللها أبعاده الإنسانية .. له عقل وروح لهما عليه حق كما هذا الجسد الذي أعمله بطريقة أوتوماتيكية فظة لا معناً لها سوى وقف أي نشاط آخر بعيد عنه.
فكانت "الوقفة مع النفس" .. أو ليكن الأمر أكثر تحديداً كانت "العزلة"..
العزلة
العزلة .. اللحظة الفارقة .. الحدث الذي زلزل كيان هذا الجسد لتوقظه من أُحاديته وتذكره أنه لم يخلق وحيداً، فتعيد إليه من جديد عقله المفكر وروحه الملهمة المتفردة به وحده .. فتتجلّى الإلهامات التي سيكن لها موقعاً يوماً ما في كتب التاريخ، وسترددها وتناقشها أجيال وأجيال من بعده .. دون توقف
وقصتها عزيزي، ليست وليدة سنوات مضت. بل عصور وعصور - أزمنة وأزمنة - أيقن بها الإنسان القديم ضرورة توحده مع العالم ككل بكيانه الكامل. فكانت نشأة الديانات والأفكار والفلسفات القديمة ومن بعدها الحديثة. والتي لولاها، ولولا انسحاب هؤلاء الأفراد من صخب حياتهم، لما كان لهذه الإنتاجات وجود في واقعنا، ولكان رحيلهم عن العالم كمجيئهم إليه. كملايين البشر ممن أخلوا بإنسانيتهم الحقة، فأخلت بدورها الإفصاح عن تفردهم وجوهر أنفسهم.
العزلة والديانات السماوية
العزلة في الديانات السماوية والأرضية على حد سواء دور فعال وجزء لا يتجزآ من جوهرهم جميعاً. فيكاد لا يخلو نبي من الأنبياء إلاّ وكانت تحتل نصيب من سيرته، ونقطة فارقة بين مرحلتين جذريتين بحياته، ولا سبيل لنا سوى الإقرار بالرابط الوثيق الجامع بين "حامل الرسالة النبوية" وبين "العزلة"
فكانت بداية الديانات السماوية مع الديانة اليهودية ونبي الله "موسى" بوصاياه العشر، التي لم يكن لُيقدّر له أن يوثقها على ألواحه المقدسة دون البعد والاعتكاف. وكانت الملاقاة بينه وبين الرب سبحانه والأمر الإلهي يسبق تلك اللحظة الجليلة بطلب البعد عن العامة والاعتكاف الكامل ٤٠ يوماً بالتمام، لا لغرض سوى لحكمة إلهية تكمن في تأهيل الروح تأهيلاً كاملاً لملاقاته، والتي لم تكن لتتم ولم تكن للوصايا أن تُكتب إن كانت عوالق الحياة لازالت تشوِّب هذا الكيان المتجسد في النبي "موسى".
ولم يكن الأمر كثير الاختلاف مع الديانة المسيحية والنبي "عيسى" باختياره للزهد والانعزال والصوم الكامل ٤٠ يوماً، ليخرج بعدها محققاً المعادلة العبقرية للذات، الجامعة بين السماحة، القوة، والعزيمة التأهبية لما سيلقاه بعد حين في سنوات رسالته.
ثم تجلت العزلة في حياة النبي الكريم "محمد" من قبل دخوله في النبوة وعلمه بالرسالة التي سيوكل بها من خالق الكون سبحانه. فكان يستحلي الخلوة بالنفس وسط الطبيعة الصحراوية وإطلاق روحه للعنان بين الحين والحين. ثم تأتي الحكمة الإلهية أن تكن اللحظة الفارقة مع هذا الإنسان ويكن نزول الوحي عليه وسط خلوته، وسط سمائه، وسط صفاء ذهنه، لتكن إشارة للعالم أجمع بقدسية الخلوة ومعناها الجلي في هذا الدين والأديان السماوية جمعاء.
ولا عجب في كون إحدى الطقوس التي ارتكزت عليها الديانات السماوية الثلاث على حد سواء "الصلاة"، التي تعد إحدى أهم الركائن والدعائم لثلاثتهم. والفاهم الحقيقي لهذه العبادة المقدسة -باختلاف طقوسها من دين لآخر- يعلم عن ظهر قلب أن جوهرها يتجلى في الخلوة الحقيقية بين "الله" وبين توحد الكيان الثلاثي للفرد "الجسد"، "العقل"، و"الروح"، والتي لو اختل احدهم يفقد هذا الفرض جوهره والمعنى الأسمى الذي فُرِض من أجله.
العزلة والديانات الأرضية
وبذكر الديانات الأرضية لا مفر من سطوع نجم "بودا" .. ذلك الراهب القديم الذي توصل في ذروة شبابه أن غاية الوصول للحقيقة وجوهر الروح لا طريق لهما سوى بالتأمل والانعزال. فآثر الفرار من برجه العاجي وثرائه الفاحش لحياة التقشف والزهد. قضى خلالها سنوات في الاعتكاف مع الطبيعة والتوائم مع الكون ليخرج بعدها حاملاً تعاليمه التي تحولت فيما بعد لعقيدة يعتنقها ملايين البشر وفلسفة يجلّها وينتهجها آخرون من معتنقي ديانات مخالفة، في محاولة للبعد عن آلام الحياة والتوصل لحالة "السلام الروحي". ليعد واحداً من عباقرة البشرية ومُصنفاً في المركز الرابع ضمن قائمة وليم هارت في كتابه الشهير "الخالدون المائة الأكثر تأثيراً في التاريخ".
العزلة والفلاسفة
بطبيعة الحال، عند ذكر مصطلح "الفيلسوف" والذي يعني حرفياً "المُحِب للحكمة" للفرد العادي، تتبادر الصورة الذهنية لذاك الرجل المنطوي على ذاته، والمنكب طيلة وقته مع كتبه وأوراقه صاباً بها حكمته والمسماة لاحقاً بفلسفته. وفعلياً لا يختلف الأمر في حقيقته عمّا يتبادر إلى الأذهان من تصور. فجميع الفلاسفة باختلاف عصورهم، معتقداتهم، إيمانياتهم، يجتمعون في نقطة التقاء تختزل في كلمة "الميل للعزلة". ولم يسبق لفيلسوف أياً كان اسمه، ابتداءً من فلاسفة الإغريق القدماء، مروراً بالفلاسفة الإسلاميين وفلاسفة الغرب، وانتهاءً بفلاسفة العصر الحديث إلّا ومر بتلك المرحلة.
فلاسفة الغرب
فهذا أبو الفلسفة الحديثة، الرياضي والفيزيائي والفيلسوف العقلاني رينيه ديكارت، صاحب أشهر النظريات الفلسفية ذات المردود الصاخب منذ ظهورها للعلن وحتى يومنا هذا، قد آثر طيلة سنوات حياته البعد عن الضجيج والبحث عن مأواً آمن لعقله يمكنه من التنقيب به وإخراج ما يعتليه من أفكار. فما كان عجيباً منه أن يجوب أوروبا شرقاً وغرباً ٢٤ مرة بحثاً في كل مرة - فقط - عن عزلة تبعده عن الصخب المحاط به من كل اتجاه. وما كان منه إلّا أن يقول بعد إيجاده لضالته وارتياحه بمدينة أمستردام "هناك، وسط الجموع المكتظة من شعب عظيم نشيط، استطعت أن أعيش وحيداً منعزلاً، وكأني في صحراء نائية". ومن عزلته ينسب الفضل الجليل في أشهر إسهاماته الفلسفية "مقال في المنهج"، الذي نُسب له الشأن في نشأة العقلانية الغربية.
ثم كان إيمانويل كانت، أحد أعظم فلاسفة القرن الثامن عشر، ومبتدع فلسفته السابقة لعصرها الجامعة بين الفكر العقلاني والفكر التجريبي. عُرف بعزلته وتقديسه لغرفته التي لم يُحدث بها أي تغيير طيلة إقامته بها اقتناعاً منه أن أي تغيير يحدث بها يعرقل فكره. لتكن هذه الغرفة هي رحم أعظم إنتاجاته، مكث بها نحو ١١ سنة في عزلة تامة أثارت جدل من حوله، كانت نتيجتها كتابه العبقري "نقد العقل الخالص"، الذي أعده كبار أساتذة الغرب أفضل كتاب فلسفي كُتب منذ عهد أفلاطون وأرسطو.
ويأتي نيتشة، الفيلسوف الألماني، أحد من أهم فلاسفة العصر الحديث والأكثر تأثيراً على الفكر النازي فيما بعد. كانت العزلة رفيقه الحميم طيلة مراحل عمره، ليكن من أكثر من تغزلوا بها بشكل صريح كلما واتته الفرصة. فرحلته معها بدأت من أزمة مرضه في بداية حياته، حينما تحتم عليه قضاء فترة نقاهته بأعالي الجبال. لتكن الغرفة الخاوية التي استأجرها قرب أعالي سفوح الألب بسويسرا هي مقر أعظم إلهاماته التي خطّها في كتابه الأشهر "هكذا تحدث زرادشت" سارداً فيه كافة اعتقاداته وإيمانياته، والذي أعده بشخصه إنجيله الخاص، عاصفاً بما أتت به الديانات ومنادياً بشدة بمبدأ القوة والبقاء للأقوى، ليكن هذا الكتاب المتولد من منبع معاناته مع ألم المرض وعزلته الكاملة هو أحد أهم أوقدة الفاشية مع موسيليني والنازية مع هتلر فيما بعد.
فلاسفة الإسلام
وبذكر الاعتكاف عند فلاسفة الإسلام، يبرز الفارابي، الفيلسوف المتصوف، أحد أهم مبتدعي الصوفية العقلانية، المتمحورة حول التأمل الفكري العميق والخلو إلى الذات لحين وصول العقل لأعلى درجات التأهب والصفاء الكامل، السامح حينئذٍ بالاندماج مع الذات الإلهية. وقد التزم الفارابي بصوفيته هذه، ولزم حياة الزهد والتقشف، وامتنع عن الزواج، مفضلاً وحدته والاستسلام لفكره بين البساتين وشواطئ الأنهار، فتكن حصيلته من الفكر أن كتب في كافة العلوم ومن الإبداع ما مكنه من ابتكار آلة من أجمل الآلات المسماة بالقانون فيما بعد. فيكن نصيبه أن يحصد لقب "المعلم الثاني" أسوة بالفيلسوف الإغريقي "أرسطو" الملقب ب"المعلم الأول" لإلمامه بكافة العلوم البشرية النابعة من كهف عزلته.
ثم جاء أبو حامد الغزّالي، لتأتي حكايته مع العزلة في مرحلة متقدمة نسبياً من عمره. بعد أن حصد كمدرس في المدرسة السلجوقية ببغداد، من المكانة المرموقة ما قد يؤهله للنعيم بها وبما ناله من الجاه والسيط الحسن. لكن ما حدث معه كان مغايراً، فقد أتته الصحوة التي أيقظته من غفوته على حد تعبيره، لينطلق خفية في عتمة الليل في رحلة طويلة مع العزلة دامت ١١ عاماً. انتهج خلالها الصوفية وجاب بها العديد من الدول العربية، معتكفاً بمساجدها، ناهلاً من علومها، قارئاً من كتبها، ليكن له من القوة الفكرية ما مكنه من كتابة أعظم إلهاماته "إحياء علوم الدين"، الممتزج بروح الصوفية والذي أخذ شهرةً فاقت كل مؤلفاته التي كتبها قبل رحلة اعتكافه، ليُترجَم فيما بعد لمعظم لغات العالم، وقيل فيه من بعض ما قيل فيه "من لم يقرأ الإحياء فليس من الأحياء".
ومن غير المعقول عند التطرق لأمر العزلة، غِفلان ابن خلدون، ذلك الفيلسوف العظيم، الرحالة المتنقل بين أسفار الدول العربية ذهاباً وإياباً، الناشئ في حياة هَبَته فرصة الاختلاط بكبار الحكام والوزراء والتمرغ بعمق سياسات الدول، ومعرفة خباياها وأسرارها بطبيعة حاله. إلى أن واتته مرحلة الأزمات، وصلت بها تدهور علاقاته السياسية إلى أشدها، والمؤامرات ضده إلى ذروتها، إلى جانب وباء الطاعون الذي أودى بحياة والديه والعديد من مقربيه. ليتدهور به الأمر إلى أزمة نفسية أقرب للاكتئاب. يقرر خلالها الهروب إلى ذاته والاختلاء بعيداً عن الضجيج المطوق به من كل اتجاه. فتكُن قلعة بني سويف بمصر مقر خلوته ومقر ولادة أعظم إنتاجاته، ليصب جل خبرته ورؤيته، واستنتاجاته الكاملة المتمحورة حول الاقتصاد، والتاريخ، والعمران، وكل ما يكفل من منظوره تأسيس دولة مستقلة ناجحة. في كتابه الأشهر "العبر- ديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" والشهير ب"مقدمة ابن خلدون". وبهذا الكتاب، المتولد من عزلته، نشأ "علم الاجتماع" ونُسب تأسيسه إليه، ولم يأتِ من بعده من تمكن من سبقه ومنافسته في هذا المجال. ليُعَد من صميم ذلك دون أدنى ريب من عباقرة التاريخ.
عزلة إجبارية
صحيح أن كل من سبق ذكرهم كانت العزلة بالنسبة لهم خيارية، وسعوا إليها بمحض إرادتهم، لكن على الصعيد الآخر العديد ممن صُنفوا تحد بند العباقرة قد فَرَضَت العزلة نفسها عليهم اجبارياً، لينصاعوا إليها مُرغمين كارهين. غير مدركين أن هذا الشر الذي أصابهم من حيث لا يدروا، هو ذاته المصدر الذي كان منه أن صنع منهم أصحاب مجد، مجرد ذكر أسمائهم، تنحني القامات إجلالاً ووقاراً.
كان الحال مع الموسيقار العظيم إن لم يكن الأعظم في تاريخ الموسيقى ككل بيتهوڤين أن أقحمته العزلة في صميمها بريعان شبابه رغماً عنه. مُدخِلةً إياه في انعزال داخلي اختاره له الصمم الذي أصابه بثلاثينيات عمره. ليحتدم الصدام بمطلع أربعينياته ويفقد سمعه كاملاً. فتكن معضلته الحق، ومأساته التي أدخلته باكتئاب حاد دفعه لمحاولات انتحار مرات عدة. قائداً إياه بعد حين لعزلة كاملة لم يرفقه بها سوى البيانو خاصته ونوتاته الموسيقية، اعتماداً منه على حسه بتخيل الألحان، دون قدرته على سماع أي منهم! ثم يكن نتاج ذلك أعظم إبداعاته التي تجلّت في موسوعته التاسعة. التي تم عرضها الأول بكبرى مسارح ڤيينا. لينحني لها أكبر الكبراء ويدوى دوي الهُتَّاف ويعم ضجيج التصفيق الحار وتُقذَف القبعات في الهواء، تحيةً وإجلالاً لهذا العبقري العظيم الذي خرج من عزلة يأس دامت ١٢ عاماً مقدماً أسطورة موسيقية لا تملك سوى أن تفرض مبتدعها العظيم، على ساحات عباقرة التاريخ.
ومع ڤان جوخ كان الاكتئاب سيد الموقف أيضاً! الذي أقحمه في عزلة صحبها مشاعر اليأس وعدم استحقاق الحياة، بعد خضوعه لمحاولات يائسة من فرض موهبته الفنية على ساحات الفن في ذلك الوقت. الأمر الذي ضاعف من شعوره بالغربة واللا انتماء على مدار سنواته. لتشتد به الأزمة بآخر مراحل عمره ذاق خلالها أقسى حالات الألم النفسي، الذي ازداد بحادثة قطع أذنه اليسرى والمازال لغزها غامضاً إلى اللحظة! لكن ما لا شك منه هو ذاك الانزواء الذي ألم به بعد الحادثة، ما جعله غريب الأطوار، عصبي المُزاج، ما حتّمَ نقله إلى مصحاً نفسي - ليعش في حالة من العزلة الكاملة دامت نحو العام، لم يكن موقفه منها سوى الانكباب على لوحاته البيضاء، مفرغاً بها كل ما يلم به من مشاعر، لتكن هذه المرحلة من أكثر مراحل رسمه غزارة، أبدع خلالها عشرات اللوحات والبورتريهات. صحيح أنه لم يمكث بعدها طويلاً، بعد أن اشتدت به الأزمة لاحقاً ليمت منتحراً، لكن ما لم يكن يعلمه، أن هذه العزلة التي فرضتها عليه حالات يأسه واكتئابه، كانت سبباً في توليد ابداعاته التي أدرجته كواحد من عظماء الفن التشكيلي والمقدرة بملايين الدولارات فيما بعد!
أمّا المفكر المصري الكبير مصطفى محمود، فقصته مع العزلة رواها بنفسه بإحدى لقائاته المسجلة تلفزيونياً. بدأت مع مرضه الصدري الذي داهمه أثناء دراسته للطب، لتتدهور حالته سوءاً ما أرغمه للتوقف عن الدراسة ثلاث سنوات كاملة. الأمر الذي أدخله بنوبة من اليأس والإحباط. لكن ما حدث حسب سرده، أن العزلة التي فُرضت عليه طيلة الأعوام الثلاث، فتحت له أبواباً لم يكن ليقترب منها لو كان ما أصابه لم يصيبه. مكنته هذه السنوات من اكتشاف ولعه بالأدب بكافة أشكاله وألوانه، لينهل حينها من كتب الفن والشعر والرواية بمدارسهم وأطيافهم المختلفة. ليتطور به الأمر ويجد نفسه قد أصقل موهبة لم يكن يحسب لها حساباً طيلة سنوات عمره السابقة ولم يكن ليتخيل أن سيبزغ نجمه فيها. فقد كتب خلال هذه المدة عدداً من القصص القصيرة التي قام بعرضها لاحقاً على الأديب الكبير عباس محمود العقاد، الذي ما كان منه إلّا أن يشيد بما قدمه له ويعرضه في صالونه الأدبي الأسبوعي بمنزله. حيث كانت الشرارة التي لفتت الأنظار له فيما بعد من كتاب كبار آخرين، فيتم نشر قصصه بمجلة صباح الخير. ومن هنا يعترف المفكر الكبير أن هذه العزلة التي اعتبرها نقمة في وقت من الأوقات هي من صنعت مصطفى محمود الذي نعرفه عن ظهر قلب الآن. والذي ولا شك يعد من عظماء المفكرين بالوطن العربي.
العزلة .. الحرية
الحديث عن العزلة لا ينتهي، وما تم ذكره ما هو سوى قطرات من بحرٍ قلّما يخذل من يقترب منه. مرشداً إياه إلى منابع أبعاده الإنسانية جمعاء. عقله وروحه جنباً إلى جنب مع جسده المُجهد من فرط استخدامه منفرداً. والناهل من منابع إنسانيته لا يكن منه سوى أن يخرج مرتوٍ بسماتٍ كانت تائهة عنه، سمات بصمته الروحية التي لا سبيل سوى أن تفرض نفسها على صفحات التاريخ ليسجلها. والسابر في سير العظماء، غالباً ما سيصطدم بين مرحلتي البداية والنهاية بالعقدة الفاصلة، الحائلة بينهما. ستبدو قاتمة، كئيبة، لزجة، لكن تبقى نقطة النهاية هي الفاصل دوماً والفاصح جهراً أن هذه القتامة لم تكن سوى الضياء الذي أشرق حياة هذا الإنسان. النور الذي سطع على تربة عزلته واحتضنته بذرة برحمها، ليزهر بعد إذٍ ثمرات روحه. روحه التي لم تكن لتزهر زهراتها لو كان اكتُتِبَ لها أن تظل ضائعة في زوبعة الحياة دون أن يُفرِجَ عنها صاحبها.
وبصخب حياتنا هذا، هنيئاً لمن هرب مختاراً، من أدرك قيمة الاعتكاف محاولاً استحضار منابع كيانه، عاملاً بما قاله الدرويش "العزلة هي اختيار المُترف بالممكنات، هي اختيار الحُر". فالتكن الحرية، فالتكن النسائم التي تطلق العنان لما خلف الجسد، لما خلف أسواره، ليرفرف قليلاً ما كان مختبئآً، منطوياً، فارداً جناحيه بعيداً، لأجيال وأجيال، حافراً على صفحات التاريخ سطوراً من ذهب، علّها تبقى، ساردةً قصة إنسان، اختار من قضبان صاخبة أن يتحرر.
كريمان حامد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق